ليعذرني الأستاذ توفيق الحكيم إن أردت أن أقوم بسياحة قصيرة في (نهر الجنون) ذلك النهر الرهيب الذي شاء الأستاذ أن يتدفق ماؤه من قطرات قلمه على صحائف إحدى عشرة من (مجلتي) الغراء في العدد الرابع منها الصادر في منتصف شهر يناير الماضي. والحق إنني لا أخشى أن أصاب بالجنون إن قمت بسياحة قصيرة في ذلك النهر أو انتهل جرعة من مائه، فليس أحب الى نفسي من أن ترشف من فيض ذلك القلم العذب الذي يذكرنا بصاحب (أهل الكهف) و (شهرزاد) و (عودة الروح). . . .
ونهر الجنون الذي خطر لي أن أكتب عنه هو عنوان لقصة تمثيلية طريفة من فصل واحد تناولها الأستاذ الحكيم في حوار لطيف، وتتلخص وقائع تلك القصة في أنه في قديم الزمان كان يجري في بلاد نائية نهر يشرب منه سكان تلك الجهة، ففي إحدى الليالي نقمت الآلهة على ذلك النهر، فأرسلت أفاعيها تهبط من السماء ثم تسكب سمومها في مائه فإذا به في لون الليل، ويرى الملك كل ذلك في رؤيا هائلة، ويسمع من يهتف به:(حذار أن تشرب بعد الآن من نهر الجنون. . . .) فيمتنع الملك هو ووزيره عن الشرب من ماء النهر، ويكتفيان بنبيذ الكروم فإذا بهما في تمام قواهما العقلية. أما الملكة وسائر أفراد الشعب فانهم يتهافتون على الماء ويستقون منه فيصيب عقولهم مس من الجنون.
فإذا كان أول هذا الفصل يظهر الملك منفرداً مع وزيره في القصر، ويتحادث معه في تل الرؤيا الهائلة التي رآها، ويبدي جزعه الشديد أن تشرب الملكة مع الشاربين من النهر برغم تحذيره إياها فيصيبها الجنون كما أصاب جمع الناس الذي شربوا معها، ثم يُظهر حزنه لعظيم على عقلها الراجح وذهنها اللامع في سماء تلك المملكة، ويتمنى لو أن وزيره أمكنه أن يجد لها الدواء الناجع، أو لو أنه استطاع أن يحضر لها رأس الأطباء، فيخبره وزيره أن رأس الأطباء أيضاً قد أصابه الجنون، فيسأله أن يأتي لها بكبير الكهان فيعلمه