للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[مهجور اللغة]

روي إن ابن زيدون قام على جنازة بعض حرمه والناس يعزونه على اختلاف طبقاتهم فما سمع يجيب أحدا بما أجاب به غيره، قال الصلاح الصفدي: واقل ما كان في تلك الجنازة ألف رئيس ممن يتعين عليه ان يشكر له، فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر.

وورد إن ابن نباتة الخطيب المصري أملى مجلدة معناها من أولها إلى آخرها (أيها الناس اتقوا الله واحذروه فإنكم إليه ترجعون) وكان الحريري صاحب المقامات كلما جمع بين الحارث بن همام وأبي زيد السروجي وأراد أن يفرق بينهما بقوله (فلما اصبح الصباح) أتى بعبارة تغايرها لفظا في كل مقامة.

وليس في هذا كله ما يدعو إلى الغرابة وان دل على البراعة، فان اللغة العربية تمتاز في سائر اللغات بكثرة الترادف في الألفاظ والتعدد في الصيغ، يذكرون إن للخمر فيها مائتي اسم وللجمل خمسمائة وللسيف الفا، وهذا مما يساعد الكتاب على التوسع في العبارة، ويعيبهم على التفنن في أساليب الكلام، ولكن العجز قعد بكتابنا عن أن يحفظوا على اللغة هذه الميزة وان ينتفعوا بها في كتاباتهم، فهم يصيغون عباراتهم على نمط واحد، ويجرون في أساليبهم على طريقة متفقة، وتجدهم يستعملون ألفاظا محدودة، وأبنية متكررة ويميلون إلى الترهل واللين، حتى أصبحت ثروتنا اللغوية يكتنفها الإبهام والغموض، وأصبحت أساليبنا في الكتابة ضعيفةواهية لا تلمح فيها أثراً للفن والجمال.

وكتابنا معذورون في هذا ماداموا لا يشتغلون بمتن اللغة، فقل منهم من يهتم بكتاب اسمه (القاموس) أو (اللسان) أو (أساس البلاغة) وقل منهم من يعرف شيئا اسمه (فصيح ثعلب) (فقه اللغة) أو غير ذلك من كتب اللغة، يكتفي الواحد منهم يأخذ لغته من الصحف والمجلات، وبمعرفة جمل من الألفاظ من نوع (فحسب، ومهما يكن من شيء) ليجعل نفسه في عداد الكتاب ثم لا يستحي من اتهام اللغة العربية بالعقم ونضوب المادة ورميها بالتأخر والقصور!!

أنا لا أرجو من الكتاب أن يترسموا طريق ابن زيدون في كتابته، ولا أن يذهبوا مذهب ابن نباتة في أسلوبه، ولا أن ينهجوا منهج الحريري في سجعه وتكلفه، إنما أدعوهم إلى التمكن من فقه اللغة ومتنها، والارتفاع بالقواميس والمعاجم فان هذا مما يساعدهم على تلوين

<<  <  ج:
ص:  >  >>