تفضل صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا فدعاني أمس إلى زيارته في داره بالزمالك؛ ومن طبعي أن أتهيب الزيارة الأولى لأولئك الذين رفعتهم مواهبهم أو مناصبهم عن مستوى العرف؛ لأن اعتيادهم إمضاء الرأي وإنفاذ الأمر بالصوت الرفيع والسلطان القوي أرهف في نفوسهم الحس بما يجب لهم على الناس من أدب الجلوس ومصطلح الحديث. والرجل الذي يلف رأسه الحياء، ويعقل لسانه التزايل، لا يسهل عليه وهو يستمع إليهم أن يعرف متى يصح أن يسأل، ومتى يجوز أن يعارض، ومتى ينبغي أن ينصرف
على أنني كثيراً ما جلست إلى بعض هؤلاء، جلسة التحفظ والاستحياء، فكنت أشعر بعد قليل أن المهابة تنجلي عني، وأن الجلالة تنسري عنه، حتى أزعم لنفسي أني أفهم للموضوع وأجدر بالحديث. ولكن علي ماهر باشا ليس كأحد من أولئك الطبول! إنما هو رجل - كما توسمته من وراء لفظه - ألمعي الذهن يكتفي منك باللمحة الدالة، رصين اللب لا يحرك لسانه إلا بالكلمة المرادة، رفيع النفس لا يسر في مطاوي حديثه عصبية ولا ضغينة. وأخص ما يميز ماهر باشا رسوخ الطبع الاجتماعي فيه. ولعل نبوغه في القانون الدولي العام على الأخص سر من أسرار هذا الطبع. وأصحاب الفكرة الاجتماعية ينفرون من السياسة الحزبية لأنها فردية مجتمعة، ولا يميلون إلى الأعمال المالية لأنها أثرة محتالة. وإذا طُلبوا إلى الحكم نهجوا فيه منهاج الدين من تنظيم أمر الجماعة، وإصلاح حال العامة، على قدر ما يسعه طوق الإنسان الضعيف من توخي الإحسان وإيثار العدل. فإذا خرجوا منه لم يسعوا للدخول فيه؛ لأن السعي للحكم لا يخلو من خطوات في سبيل الشهوة الذاتية والمنفعة الخاصة. لذلك كان أظهر العزائم وأصدقها في وزارتي علي ماهر باشا سلسلة من الإصلاح الجماعي تتحقق على وجوهها الصحيحة في وزارة الشؤون الاجتماعية والجيش المرابط. وكانت حياة الفلاح والعامل موضوع هذا الإصلاح وموضوعه فلو أن طوارق الحدثان نامت عن مصر حيناً آخر من الدهر لكان من الممكن أن يشعر الفقير بأن له حقاً في خير الله، وحظاً من نصيب الوطن. ولكن الحرب التي تتنمَّر أخطارها على الرمال والمياه من حدود (الوادي) لا تتيح لأولي الأمر أن يرصدوا الأهبة كلها لمعالجة الفقر؛ فلم يكن بد من قيام المعنيين بإصلاح الجماعة ليحلوا هذه المعضلة الأزلية بما حلها به الله، فيجمعوا المبرات، ويجبوا الصدقات، وينظموا الإحسان، ويسهلوا العمل، ويوفروا القدرة