ما زدت خوضاً في آثار الأقدمين إلا زدت إعجاباً بها وبهذا الجد الذي ولدها؛ وإنك لتقلب في كتبهم فيبهرك هذا التلون في المادة وهذا التفنن، وهب أنك خرجت منزعجاً لاضطراب في الاتساق واختلاف في الاتفاق، فإن هذا لم يكن ليذهب ببعض عجبك من هذا الجد ومن هذا الدأب اللذين يدلانك على عقلية حاولت أن تتأمل وتعلل!
في كتب الأقدمين ذلك الاضطراب الذي كان لا يحسه أصحابه. لأنهم لم يعملوا أعمالهم على حساب الأجيال الآتية، ولو فعلوا لهوَّنوا على مؤرخينا كثيراً من عناء الافتراض وقياس ما لا يقاس، ولكن أصحابنا - عفا الله عنهم - لم يريدوا أن يعطونا الثمرة ناضجة بل أرادوا أن نعمل على إنضاجها وصونها. وفي كتبهم ثمرات كثيرة تنادي الأيدي وهي دانية القطوف؛ وأذكر أني ما جلست يوماً إلى كتاب من هذه الكتب إلا خرجت بحديث ممتع أو فائدة جميلة تدفعني نفسي إلى التقاطها وأنى لي أن أقسم أعضاء جسدي أقلاماً تسطر!
جلست في هذا الصيف إلى أغاني أبي الفرج التي كلما ضربها الأدباء تفجرت منها عيون جديدة. ووقفت على أسم (أبن أبي عتيق) الذي عاش في الحجاز في العصر الأموي ورافق تطور المدرسة الغزلية أتأمل تكرر أسمه في كثير من المواقف مع كثير من الشعراء، طوراً يبدو لي كناقد وطوراً كسامر، فحصرت مواقفه في هذه المواضع على التقريب، فإذا بي أراني أمام شخصية عنيدة في النقد هي - إذا صح ضني - أول شخصية في الأدب العربي (اليقيني) عالجت الأدب وعملت على نقده مستلهمة إلا ذوقها. . . ولكن أبا الفرج عفا الله عنه ترك هذه الشخصية مجهولة لأنها - في زعمه - لم تبتكر ولم تنتج شعراً ولا لحناً، ولكن هذه الشخصية تتردد كثيراً على الأفواه. وتغشى كثيراً مجامع اللهو والأدب، وتصبغ كثيراً هذه المجاميع بألوانها الخاصة. ومما يجعل هذه الشخصية بارزة ترددها الكثير إلى هذه المجامع المختلفة، وتردد أصحابها إليها معتبرين رأيها في النقد والأدب. ولا اعلم - بحسب روايات الأغاني - نقداً تحليلياً عميقاً كهذا النقد. ولقد أردت أن أوضح هذه