تأبى حركة الترجمة في مصر إلا أن تكون قوية عنيفةواسعة النطاق حتى تشمل كل نواحي الحياة وشتى ضروب التفكير، فهذه آيات الأدب الغربي الرائعة، وألوان العلم المختلفة تنقل الى اللغة العربية. ويطالعنا المصريون فيشاطرون العالم المتمدن علمه وأدبه، حتى لتكاد العقلية المصرية أن تندمج في العقلية الأوربية اندماجا تاما، ولم تقتصر حركة الترجمة على الآداب والعلوم، ولكنها امتدت فتناولت شعبا وأطرافا متنوعة دقيقة، نعم امتدت حركة الترجمة حتى شملت الثقافة الحربية أيضا! فهذا كتاب (أربعون يوما من عام ١٩١٤) وضعه بالإنجليزية الجنرال موريس ونقله الى العربية الضابط الفاضل محمد عبد الفتاح إبراهيم. وأول ما نلاحظه إن المعرب ضابط في الجيش!!
ولست أشك في أن القارئ يسيء الظن. كما كنت أنا أسيء الظن بضباطنا جميعاً من حيث الرغبة في الاطلاع والدرس. فنحن إذن نسجل الثناء للمعرب الفاضل مضاعفاً، فقد اثبت نشاطا أو ميلا الى النشاط العلمي بين ضباطنا، وهو فوق ذلك قد ساهم بكتابه هذا في حركة التعريب الشاملة بنصيب محمود.
والكتاب تاريخ دقيق لأربعين يوما من سنة ١٩١٤، تلك السنة التي رفع فيها الستار عن أكبر مأساة شهدها التاريخ، إذ انطلقت صيحة الحرب العظمى تدوي في أرجاء العالم دويا شديدا، فارتج منها رجة عنيفة امحّت في أثرها دول وأنشئت أخرى. ففيه تحليل للخطط الحربية التي رسمها الألمان والفرنسيون، فتشعر حين قراءته بالمهارة البارعة التي كانت تبدو من قواد الفريقين، فهي محاورة طريفة بين الألمان والفرنسيين على الحدود الغربية، أقرب الى مباريات اللهو واللعب منها الى أي شيء آخر: هذا يريد أن يأخذ خصمه على غرة ويحيط بجناحيه أو يغزو قلبه، وذلك يفسد عليه خطته بمهارة فائقة تدعو الى الإعجاب. ويخيل إليك وأنت تقرأ الكتاب أنك بصدد رقعة للشطرنج بين لاعبين، يكيد كل واحد منهما للآخر وينصب له الأحاييل (ولكن لم تكن وا أسفاه قطع ذلك الشطرنج من خشب أو عاج، وإنما كانت أرواحا بشرية تحصد حصدا بغير حساب) الكتاب لذيذ ممتع