عندما علمت بأنني سأقوم مقامي. هذا أستقبل حضرة الأستاذ أحمد حسن الزيات، شعرت في نفسي غبْطة وارتياحاً، لا لأني سأجد فرصة للتحدث عن زميل كريم وأديب كبير بمناسبة اختياره عضواً في المجمع فحسب، بل لأني ذهبت مع الذكرى إلى ماض بعيد أتأمل فيه صوراً عزيزة لاحت لي مع صورة إلى الصديق الذي عرفته ونحن بعد عند الأفق الشرقي من الحياة وما زلت أنعم بصداقته إلى اليوم.
عرفت الأستاذ الزيات منذ خمس وثلاثين سنة، وكنا عند ذلك زملاء في التدريس بمعهد أهلي ضم نخبة من صفوة الأصدقاء الفضلاء هم اليوم من أعز من تفخر البلاد بهم.
رأيت منه أول ما رأيت شاباً أنيقاً في ثيابه الشرقية الجميلة، وكان وديعاً كما هو اليوم، نبيلاً في حديثه، هادئ الصوت إذا تكلم، يغضي حياء وهو يفيض جداً وعلماً وأدباً.
ثم زادت معرفتي به فعلمت أن لحياته قصة - قصة شاب اتجه إلى العلم في الأزهر الشريف وتعلق بالأدب فتلقاه على أعذب موارده، ثم تعلم الفرنسية ودرسها على أكبر أساتذتها، وتلقى دراسة الحقوق في مدرسة الحقوق الفرنسية، فكان إعجابي به لا يعدله إلا عجبي منه، إذ كان مثالاً فذاً بين من عرفت من المعلمين. وجمعتنا الصداقة وقربت بين قلوبنا، فكنا نجد في عملنا معاً من المتعة ما جعل صورة ذلك المعهد الأهلي عالقة على مر الأيام بقلوبنا.
وأنا إذ أنظر اليوم إلى الوراء عبر هذه السنوات الطويلة كأنني مسافر وقف حبنا على ربوة يتأمل الفدافد التي قطعها وهي تبدو تحت بصره غامضة يغطيها ستار من الضباب يحجب شعابها الدقيقة ومساربها الصغيرة ولكنه يجمعها في لحظة واحدة في منظر رائق يحرك القلب بروائه.
وقد كان الأستاذ الزيات أحد أفراد قلائل خدموا البلاد أكبر خدمة في التعليم وفي التأليف، كما أنه واحد ممن أحدثوا في اللغة العربية مناهجها الجديدة في التفكير، وأبدعوا لها أساليبها