من نحو أسبوعين كنت قريباً من المذياع، فاسترعى انتباهي أحد المذيعين يقدم الأستاذ علي الجارم بك ليلقي قصيدة (السودان) فتوقعت أن يكون الأستاذ الجارم قد حفزت شاعريته قضية الوادي الماثلة في مجلس الأمن، فاستجابت بقصيدة جديدة لدواعي الظروف القومية الحاضرة. وأصغيت إليه وهو يقول بإلقائه المرنم الجميل:
يا نسمة رنحت أعطاف وادينا ... قفي نحييك أو عودي فحيينا
واستمر في إنشاد القصيدة، ينتقل من التغني بالنسمة التي هبت من جنوب الوادي فأثارت شوقه إلى السودان، إلى الحديث عن الرحيل في القطار إلى أسوان، ومنه إلى الباخرة النيلية، ثم إلى القطار في صحراء العتمور، حتى يصل إلى الخرطوم، فيشيد بأهلها الذين تجمعنا بهم شتى الروابط.
قصيدة جميلة ولاشك، ولكن هل توصف بالبلاغة التي قال البلاغيون أنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال؟ والسؤال بعبارة أخرى: هل هذه القصيدة تطابق مقتضى الحال الحاضرة بمعنى أنها تعبر عن قضية السودان كما هي مثارة الآن من حيث وحدة الوادي، وإنكار الإنجليز لها، وحجتنا، وأباطيلهم، ومن حيث شعور الشاعر إزاء ذلك وتصويره له؟
إنها ليست كذلك، ولكن الجارم شاعر بليغ، فما السر إذن؟
السر أن القصيدة قديمة، قالها الجارم منذ سنين في أثناء زيارته للسودان، وألقاها في نادي الخريجين بالخرطوم، وذهب كاتب هذا إلى السودان على أثر ذلك، فسمع حديث هذه القصيدة هناك، وحسن وقعها من نفوس إخواننا السودانيين وترديدهم لأبياتها.
وقد يمكن أن يمر الإنسان بأمر إذاعتها في الوقت الحاضر مر الكرام، ملتمساً له أدنى الملابسات، وملتمساً للشاعر عذراً من الرغبة في التمتع بالكسل. . .
ولكن حدث في يوم الأحد الماضي أن سمعت بالمذياع نفس القصيدة مرة أخرى بنفس الصوت والإلقاء، صوت الجارم وإلقائه الجميل، وقد تكون أذيعت في وقت آخر ولم أسمعها، وقد تكون سجلت، وستتكرر إذاعة المسجل.
وقد نستسيغ تكرار المسجلات الغنائية، ولكن لم تكرر إذاعة هذه القصيدة، وهي على ما