أصدق آثار الأديب مذكراته، والذكريات ذخيرة الفكر والسنين، وصدى الحوادث والشؤون، فما أحب إلى ذوي الأقلام الحرة من اختزان المذكرات وتسجيلها، ففيها يودعون صورا تعبر عن حياتهم الخاصة أو العامة، وفيها يعربون عن تهاويل ماضيهم وهمومهم، وما اتصل بجيلهم وقبيلهم من خير أو شر، فإذا هي بعد ترتيبها ونشرها تهتز وتنبعث فتعود جديدة شائقة كما كانت حوادقها وبواعثها، قبل أن تغيب بين سمع الأرض وبصرها.
ولعل أول ما يدون أصحاب هذا الضرب من الأدب هو ذكرياتهم. وسيرة حياتهم، إذ يكتبونها من أجل أنفسهم قبل غيرهم، ورب كراسة قيدوا فيها هواجسهم وحوادثهم، فور انبثاقها أو في فترات منقطعة متتابعة كانت كل صفحة من صفحاتها صورة كامنة لأيامهم الحافلة وشؤونها المختلفة، فاستوفوا حاجتهم وإلهامهم قبل الفوات، وكانوا أمناء في تسجيل الأحداث والتجاريب وتعليل الأمور التي تجلو الحقائق وتتصل بالتاريخ
وثمة ضرب آخر من المذكرات يعمد أصحابها إلى استعادتها وكتابتها بعد أن تغيب أشباحها، وتضيع آثارها وأخبارها، فإذا عن لهم تصويرها ونشرها أخذوا يرتدون إلى الماضي وربما كان بعيدا شريدا، فيخلعون أردية السنين حتى يبلغوا أيامهم الخالية فيبعثوا الذكريات من مرقدها. ومهما هاجوا ما فاتهم منها فلن يعود ثائرا ناضرا، لأن اهتزازة الحياة وحرارة الحوادث قد أرقته بسبب النسيان والإهمال أو غياب الشعور، فيفقد القديم المستعاد الصحة والرونق ويكون له طعم الغذاء المحفوظ في علبة من حديد.
فمن الضرب الأول كتاب (حياتي) للدكتور أحمد أمين بك. وقد كان هذا الكتاب درة التأليف العربي في أدب هذا العام، إن قارئه ليشعر منذ الصفحة الأولى أنه ين يدي كاتب صريح، بعيد عن التكلف والتمويه، فلا التباس ولا تنميق ولا تبجح أو تمجد، فإذا ذكر عوامل تكوينه وأثرها في حياته وثقافته، وألاعيب القدر التي صرفت في هذه الحياة حظ صاحبها رأينا مثالا إنسانيا عظيما لطلاب المعرفة والصابرين على الصعاب حتى يدركوا بكفايتهم وكرامتهم المجد المنشود، وكأن المؤلف حين يجلي حياته ويكشف عن دخيلتها ومزاجها منذ