لعلك أيها القارئ الكريم توافقني فيما أذهب إليه من أن عظمة المم ترجع أولا وقبل كل شيء إلى عاملين هامين: أولهما قوة روحية تدفع أبناءها إلى تضحية أرواحهم من أجلها وإلى استعذاب الردى في سبيلها وهو يمكن أن يسمى بالإيمان الوطني - وثانيهما قوة مادية تحقق لهم ما يبغون لوطنهم من نصر ومجد.
وقد قصصنا عليك فيما سبق مدى قوة الشعب البريطاني الروحية وعظم ثروته الخلقية، ووصفنا لك إيمان البريطانيين بوطنهم وحبهم له وإقبالهم على التضحية في سبيله.
وعندي أن القوة الروحية هي العامل الرئيسي، ولكن ذلك لا يمنع من خطر القوة الثانية وهي القوة المادية، فإن الجندي الذي ينزل إلى ميدان القتال وهو أعزل من السلاح مصيره حتماً إلى الدمار. وقد كفلت بريطانيا لنفسها القوة الثانية ويرجع الفضل في ذلك إلى أنها أولاً وقبل كل شيء دولة صناعية؛ بل إنها أنها أولى دول العالم الصناعية.
ويحسن بي قبل أن أحدثك عن الصناعة في بريطانيا أن أحدثك عن أمر له خطر وله شأنه. ذلك أن العلماء يقسمون حياة الأمم والأطوار التي تمر بها إلى أربعة أدوار:
الدور الاول: وهو المرحلة التي يحترف فيها الإنسان القنص والرعي. وأظنك توافقني على أن هذه المرحلة بدائية لا يتقدم فيها الإنسان ولا يرقى ولا يتحضر. وإن نظرة واحدة إلى حالة الزنوج في اواسط أفريقيا وإلى حالة البدو في الصحراء ستجعلك من غير شك تؤمن بصدق هذه النظرية، فإن الزنوج والبدو يعيشون هذه المعيشة منذ خلقوا، وسيبقون كذلك ما لم يضطروا اضطراراً إلى تغيير أساليب حياتهم.
الدور الثاني: وهو المرحلة التي احترف فيها الإنسان الزراعة وقد كانت الزراعة أول خطوة في سبيل التقدم والتمدن، ذلك أن الإنسان عندما اشتغل بالزراعة استقر في مكان وبدأ يعمل على تحسين حالته والنهوض بها، ومن هنا كانت الحضارة الأولى التي ظهرت في التاريخ حضارات زراعية قامت في مصر وفي العراق وفي الصين منذ آلاف السنين.
الدور الثالث: وفي هذا الدور أشتغل الإنسان بالنجارة وتعتبر هذه المرحلة أرقى من المرحلة السابقة.