للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[وزراؤنا والأدب]

من القضايا التي صدقت في الماضي والحاضر، وفي الشرق والغرب، أن الأدب والفن لا يزدهران ولا ينتشران إلا في ظلال ملك أو وزير أو أمير.

وصدق هذه القضية جاءها من أن الأدب العالي والفن الرفيع لم يكونا من مطالب العامة في أي عهد؛ إنما يطلبهما عشاق المجد والحمد ممن بلغوا الغاية القصوى من بسطة الحياة وسطوة الملك فتشوقت نفوسهم وامتدت عيونهم إلى أبعد من ذلك.

يطلبهما الملوك وأشباههم من أولى الصدارة والإمارة لأنهما العطر الباقي في يد ابن آدم من الجنة؛ فمن لم يطلبهما لمتعة النفس وسعادة الروح، طلبهما لزينة الملك وجمال الأحدوثة، فالأدب والفن بمعناهما الأعلى أرستقراطيان لا يرفعهما إلا الرفيع، ولا يقدرهما إلا القادر. فإذا نزلا إلى الشعب ابتذلا فلا ينفعانه ولا يرفعانه. إنما الأدب والفن معنيان من معاني السماء يحملك النزوع إليهما على أن تطمح ببصرك إلى الفوق؛ ويدفعك الطمع فيهما إلى أن تطوح بنفسك إلى الأمام. ومن هنا كان الرجل إذا سمعت ملكاته بالعلم أو بالملك، ورقت مشاعره بالتربية أو بالمدنية، وجد نفسه في أفق الفن محفوظاً برجاله، مغموراً بجماله. فإذا كان صاحب السلطان من ذوي القرائح الفنانة كان جدواه على الأدب من جهتين: جهة الاقتداء به في الإقبال عليه، وجهة المكافأة منه على الإحسان فيه. والناس منذ كانوا على دين الملوك وهوى القادة. قال أسامة بن معقل: (كان السفاح راغباً في الخطب والرسائل يصطنع أهلها ويثيبهم عليها، فحفظت ألف رسالة وألف خطبة طلباً للحظوة عنده فنلتها. وكان المنصور بعده معنياً بالأسمار والأخبار وأيام العرب يدني أهلها ويجزيهم عليها، فلم يبق شيء من الأسمار والأخبار إلا حفظته طلباً للقربة منه فظفرت بها. وكان موسى مغرماً بالشعر يستخلص أهله، فما تركت بيتاً نادراً، ولا شعراً فاخراً، ولا نسيباً سائراً، إلا حفظته؛ وأعانني على ذلك طلب الهمة في علو الحال. ولم أر شيئاً أدعى إلى تعلم الآداب من رغبة الملوك في أهلها وصلاتهم عليها. ثم زهد هارون في هذه الأربعة فأنسيتها حتى كأني لم أحفظ منها شيئاً).

وكل أديب أو فنان أو عالم هو في ذلك أسامة بن معقل. وما النهضات الأدبية والعلمية في الأمم إلا وثبات للمجد الروحي في نفوس بعض الملوك. وفي تاريخنا الأدبي نستطيع أن نؤرخ النهضات فيه بتاريخ معاوية وعبد الملك في دمشق، والرشيد وابنه المأمون في

<<  <  ج:
ص:  >  >>