بلغ المتنبي ما لم يبلغه شاعر آخر من الشهرة. وقد اهتم له النقاد الأدباء قديماً وحديثاً، وكتب عنه كثيرون من أفاضل الأدباء وأكابرهم في عصرنا هذا. وقد عني بعضهم باستنباط أخلاقه من شعره، وبعضهم أغرى بتتبع نسبه وتاريخ حياته وأسرارها وأسباب حوادثها، وبعضهم نظر إليه من حيث هو الشاعر الذي يمثل العرب خير تمثيل وينوب عنهم في الإبانة عن خصائص نفوسهم ونزعاتهم، وبعضهم عُني بحكمته ونظراته في النفس والحياة، ومنهم من راقته مبالغته التي اشتهر بها في المدح أو الفخر، ومنهم من راقته أساليب التشبيه التي أُغري بها أهل زمنه، وقدموه من أجلها في ظاهر ما يحسبون ويحسون. وإذا تأملت سبب إعجاب المعجبين به، وجدته يختلف باختلاف أذواق المعجبين به واختلاف نظرهم إلى الشعر كما تختلف أسباب المهتمين بدراسة سيرته، وإذا نظرت في شعر المتنبي وشعر غيره من كبار الشعراء وجدت شاعراً قد يماثله أو يبزه في صفة، ويماثله أو يبزه شاعر آخر في صفة أخرى من صفات الجودة، وهو بالرغم من ذلك أوفر نصيباً من الشهرة. وترى لغيره من الشعراء أبيات كثيرة في الحكم والأمثال والأقوال المأثورة، تدل على فطنة بالنفس، وخبرة بالحياة، وتوفيق في الصنعة؛ ولكنها لم تسرْ كما سيَّرَ المتنبي شعره في هذه المعاني. فالبحتري أكثر منه نصيباً من طلاوة الصنعة، وأبو تمام من أساليب البيان، والشريف من الوجدان وسلامة الفطرة، وابن الرومي من الأوصاف، والمعري من النظرات في الأخلاق والحياة، ولكن ما من دَويٍّ أثاره هؤلاء إلا ويخفت بجانب ما أثار المتنبي حتى ليصدق فيه قوله:
وتركك في الدنيا دَوياً كأنما ... تداول سمعَ المرء أنمله العشر
وقد تتبع النقاد قوله أحياناً بالتزييف، وإظهار السيئات من معاظلة والتواء في بعض قوله، وبالتقصي للسرقات والمآخذ، أو ما ظنوا أنه سرقات ومآخذ. حتى حاول بعضهم رد كل معنى من معانيه إلى شاعر سابق. وبعض النقاد أولع بإظهار ما في مغالاة مدحه من التهكم المقصود أو فساد الذوق غير المقصود. وبعضهم أظهر ما في مغالاة المدح من إلحاد أو شبه إلحاد، وما في استطالته بالفخر من كفر أو شبه كفر، واستشهدوا بقوله: