وقالوا إنه كان يظهر الشك بالبعث والحياة الأخرى كما في قوله:
فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
ومن تفكَّرَ في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب
وقالوا إنه تعدى منزلة الشك في هذه الأبيات الذي يشبه الإنكار المُقنَّع إلى منزلة إثبات النفي المُقنَّع في قوله:
تَمتَّعْ من سهادٍ أو رقادٍ ... ولا تأملْ كرى تحت الرجام
فإنَّ لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام
وثالث المعاني التي يدركها العقل بعد معنى الانتباه ومعنى المنام هو معنى الفناء والعدَم. والمتنبي يلجأ إلى عقل القارئ في تأمله فهو إذا يريد المعنى ولا معنى غيره. وبعض النقاد أشار إلى شدة حقده على الناس وقسوته في قوله:
وكُنْ كالموت لا يرثي لِباكٍ ... بكى منه ويروي وهو صادي
وقوله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس رَوَّى رمحه غير راحم
فليس بمرحوُم إذا ظفروا به ... ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
ولكن كل هذا النقد لم يسقط الرجل من منزلته، فلأي أمر تبوأ هذه المنزلة؟ إنه لا شك في مقدرته في الشعر وإن له من صفاته باعا فيه، فهو بالرغم من معاظلته أحياناً يجيد أساليب البيان كأحسن ما يجئ به أبو تمام وأحياناً. يأتي بالأساليب الحلوة كأحلى ما يجئ به البحتري، وإن كان إتيانه بها عفواً من غير تعمد وتكلف، ولكن كل هذه القدرة في القريض وما عنده فيه من صفات الجودة جماعها أمر واحد وهو الروح الخاصة التي تظهر فيما له صلة من شعره بآماله وخيبتها وتفيض على ما ليس له صلة مباشرة بتلك الآمال، فتعم إذا هذه الروح كل شعره وتكسبه (جاذبية الشخصية) وجاذبية الاعتداد بالنفس والاعتزاز بها وجاذبية لذة البيان المُعبَّر عنها. ولأكثر الشعراء نصيب منها، ولكن نصيب المتنبي أو فر نصيب. وهي أيضاً التي بصرته بدخائل النفس الإنسانية وأسرارها وعيوبها كي يتخذ من