تلك البصيرة بالنفس الإنسانية عامة سلاحا يساعده في الاعتزاز، والاعتداد بنفسه فاعتداد المتنبي بنفسه إذا سبب طلاوة شعره وسبب حكمه وأمثاله وسبب ما يشعر القارئ في شعره من القوة. وقد تكون روح الاعتداد بالنفس مصحوبة بالتقحم والإقدام والفخر والادعاء كما كانت في حياة بِنْفِنوتو سِلَّيْني المثَّال الإيطالي الذي كتب تاريخ حياته وهو مملوء بالمغامرة والمخاطرة والإجرام وبالفخر العريض والادعاء، ولكنه كتاب يستهوي القارئ بسبب ما أكسبه اعتداد صاحبه بنفسه من جاذبية وطلاوة وقوة في الكتابة. وقد تكون هذه الصفة عند رجل مفكر في نفسه غير مقتحم ولا مستطيل ولا مُدّع فتكسبه أيضاً صفات الكاتب الذي يستهوي قلمه القارئ، فإن اعتزاز مونتاني الكاتب الفرنسي بخواطر نفسه وحوادث حياته اليومية واللذة التي وجدها في قيدها ووصفها تستهوي القارئ بعدوى الشخصية ومغنطيسها. فعدوى الشخصية في نظري هي الصفة الغالبة التي ميزت شعر المتنبي، وهي التي ميزت ترجمة بِنْفِنوتو سِلِّيني لحياته وميزت مقالات مونتاني الفرنسي. ويشترط في وجود هذه العدوى أن تكون شخصية صاحبها ذات هبات عقلية ونفسية طبيعية، والعدوى قد تظهر بين الناس قي مقدار أقل حتى ولو كانت الشخصية المعتد بها المعتز صاحبها قليلة الهبات العقلية؛ وهذا أمر مشاهد في حياة الناس اليومية وتأثير بعضهم في بعض في أعمالهم وأخلاقهم وأفكارهم ومذاهبهم وصدقاتهم وعدواتهم، فالناس إذن خليقون أن يهتموا للشاعر أو الكاتب الشديد الاعتزاز والاعتداد بنفسه. وقد يهتمون له أكثر من اهتمامهم لشاعر أو كاتب آخر أقل اعتداد بالنفس وأكثر هبات عقلية ونفسية، فليس اهتمام الناس للشاعر أو الكاتب إذاً على قدر هباته العقلية وحدها كما يظن المعجبون به الذين يستهويهم اعتداده بنفسه، وللشاعر هيني الألماني كلمة حكيمة في هذا الموضوع وهي كلمة مأثورة في هذا المعنى فقد قال: (إن الإنسانية كالشجرة، فالشجرة لا تحفظ ذكرى الأيدي التي تعهدتها بالري والعناية وإصلاح التربة والصيانة من العواصف والأضرار والرياح، ولكنها تحفظ ذكرى اليد المعتدية التي تأخذ خنجراً وتحفر اسم صاحبها على ساقها بالنحت والتكسير من غلافها والسطو عليها، وكذلك الإنسانية قلما تحفظ ذكرى الذين ضحوا في خمول وسكوت لأجل رعايتها والعناية بها، ولكن الإنسانية تحفظ ذكرى الغزاة المدمرين الذين نقشوا أسماءهم على جبهة ذاكرتها بأحرف من نار وبالسطو عليها وبالإهلاك والتدمير وإراقة الدماء. وهذه