شواهد متطرفة تدل على اهتمام الناس بالمعتد بنفسه. ولا نريد أن نقول إن الشعراء والكتاب الذين يبالغون في إظهار الاعتداد بالنفس هم مثل هؤلاء الغزاة المدمرين في شرهم، وإنما نعني أن ظاهرة الاعتداد بالنفس تستدعي اهتمام الناس في الحالتين. ومع ذلك فإن رجلاً كالمتنبي ما كان يتأخر عن إراقة الدماء والتدمير في سبيل تحقيق آماله كما يشهد الكثير من شعره. وقد صرح بذلك في أكثر من قصيدة كما قي قوله:
بكلِّ مُنْصلِت ما زال مُنْتظِرِي ... حتى أَدَلْتُ له من دولة الخَدَم
شيخ يرى الصلواتِ الخمسَ نافلةً ... ويستحل دم الحجاج في الحَرمَ
وهنا تصريح ليس بعده تصريح. والحقيقة أن تقديس الإنسانية للاعتداد بالنفس حتى ولو بلغ الإجرام لا يقل في كثير من الأحايين عن تقديس الإنسانية للفضائل، بل قد يكون أعظم من تقديسها للفضائل، إذ أن تقديسها للفضائل كثيراً ما يكون نفاقاً ورياءً أو رغبة في الانتفاع من وداعة الفاضل واستكانتِهِ وترفعه عن الدنايا بينما يكون تقديس الإنسانية للاعتداد بالنفس ومظهره في غيرها عذراً لها في تقديس مظهره في نفسها وتقديس أثرتها، فتجمع بين لؤم الأثرة وقداسة العبادة بتقديس مظهر الاعتداد بالنفس في غيرها. وقد تحتال للجمع بين هذين المتناقضين بأن تنسب إلى المُعْتَدِّ بنفسه النبل والجلال وكرم الشمائل والمروءة، وهو قد يكون خلواً من هذه الصفات أو على الأقل يكون خلواً من مقاديرها التي تنسبها إليه كي تجمع بين لؤم الغريزة وتقديس الفضائل. وهذا أمر يشاهد كثيراً بين الناس، ولعل هذا الشرح يفسر كيف أن الناس كثيراً ما يحاربون الفضلاء وينتقصونهم مع معرفة فضيلتهم وهم يقدسون الفضائل في كلامهم، وكيف أن الناس كثيراً ما يجلون صاحب الرذيلة إذا لم يضطروا إلى مؤاخذته اضطراراً، وإذا كان معتداً بنفسه وكانت في لسانه خلابة أو له قدرة وسلطان. فإذا كان هذا شأن الناس مع من قلت فضيلته من المعتدين بالنفس، فكيف لا يكون إعجابهم أعظم بمن جمع إلى الاعتداد بالنفس فضائل وبياناً وفصاحة تستهوي القارئ؟ وكثيراً ما يضع القارئ نفسه في منزلة نفس القائل المعتد بشخصه ويشاركه في آماله وأطماعه وإحساسه واعتزازه بنفسه، ويشاركه في خواطر نفسه وحالاتها كما يفعل القارئ أيضاً عندما يقرأ قصة لكاتب فيضع نفسه في مكان بطل القصة