الموصوف الذي يعجب به القارئ. وقد يفعل بعض القراء ذلك حتى في قراءة قصص مشاهير المجرمين الذين يعتدون ويعتزون بأنفسهم إلى حد الإجرام. وهذه شواهد متطرفة لهذه الظاهرة النفسية وجاذبية الاعتداد بالنفس تختلف باختلاف الكاتب وباختلاف نفوس القراء المتأثرين بها. وهذه الجاذبية كالمعدن السائل الذي يسيل بمقادير متفاوتة مع ماء الينابيع التي لا تتفاوت في مقادير مياهها السائلة؛ فالشعراء والأدباء لا يختلف مقدار نتاجهم مع اختلاف فيض ينبوع معدن الجاذبية في قولهم، وعلى قدر ما في قولهم من جاذبية وبيان الاعتداد بالنفس يكون قدر تأثر القراء بهم فإذا قرأ قارئ قول المتنبي:
أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني ... فلا أعاتبه صفحاً وإهوانا
وهكذا كنتُ في أهلي وفي وطني ... إن النفيسَ غريبٌ حيثما كانا
تلمس تلك النفس واكتسب شيئاً من إحساسها بالنفاسة والقدرة على الاعتزاز بنفاستها وأحس ما رأته النفس الموصوفة في حياتها من صفح وإهوان؛ وهو قد يكتسب كل هذا الشعور أثناء قراءته قول الشاعر من غير فطنة له، فهو في رحلة نفسية، إما مسالك العقل الظاهر وإما في مجاهل العقل الباطن. وكذلك إذا قرأ قول المتنبي:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما مِنْ صداقِتهِ بُدُّ
خليلاي دون الناس حزن وعبرة ... على فقد من أحببت مالهما فقد
وأكْبِرُ نفسي عن جزاءٍ بغيبة ... وكل اغتياب جهد من لا له جهد
وأرحم أقواماً من العي والغبي ... وأعذر في بغضي لأنهم ضد
سافر سفرة في عالم التجارب النفسية وبين الأحياء ولو لم يكن على صفات الشاعر النفسية ويلتذ التجارب الخلقية بالتذاذ ما يعبر عنها من البيان. وكذلك إذا قرأ قول المتنبي:
إذا غامرتَ في شرف مَروُم ... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم
يرى الجبناء أن العجز عقل ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
وكل شجاعة في المرء تُغْنِي ... ولا مثل الشجاعة في الحكيم
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدر القرائح والعلوم