هي راية الفكر والرأي والبيان، وهي أول هبة منٌ بها الوهاب على هذه البلاد، ولعلها أول هبة جاد بها الله على هذا الوجود
مصر بطبيعة الفطرة أمة سليمة الروح والوجدان، ومن أجل هذا المعنى كان فقراؤها أغنى من الأغنياء، وكان جهلاؤها أعلم من العلماء، فما عرف الناس في شرق ولا غرب بلداً يعيش على المواهب الطبيعية كما يعيش هذا البلد، ولا سجل التاريخ أمجاداً أشرف من أمجاد هذا البلد، ولا كان في الدنيا نهر أوفى وأكرم من نهرها الفياض بمعاني الخصب والثروة والشعر والخيال
عاصرت المدينة المصرية مدنيات كثيرة في القديم والحديث، فهل انهزمت أمام إحدى المدنيات؟ وهل خضعت لعبودية الروح في أي وقت، وإن جاز الزمن فنال من استقلالها السياسي في بعض العهود؟
صنع الدهر بمصر ما صنع في عهود الطغيان من الوجهة السياسة، ولكن الدهر عجز عن غزوها في الميادين الأدبية والروحية والعقلية، فظلت آية الآيات في سمو الفكر والرأي والبيان
إن مصر لم تخضع ولن تخضع لأي سيطرة تعتمد على الاستبداد، وهل كان من العبث أن تعرف مقابر من سيطروا على هذه البلاد، ثم تختفي مقبرة الإسكندر المقدوني، فلم يهتدي إليها منقب ولا باحث، مع أن صاحبها كان من أعاظم الرجال؟
كانت مصر لأبنائها، ولن تكون إلا لأبنائها، وستمضي أجيال وأجيال، وأزمان وأزمان، قبل أن يجوز في الوهم أن الذاتية المصرية معرضة لاستعباد الجهل والبغي والطغيان. في عصور الجاهلية الجهلاء كانت مصر مناراً يهدي اليونان والرومان، وفي عصر الإسلام كانت ملاذاً للعلوم الإسلامية، والحضارة العربية، وفي العصر الحديث كانت مصر درعاً يقي الشرق من طغيان الغرب، وستظل مصر إلى الأبد مصدر النور ومنبع الإشراق.
أكتب هذا وفي قلبي أشجان تعجز عن إثارة دموعي، فقد قيل وقيل أن أيام الحرب تصد العقول عن الرأي، وتمنع الأقلام من البيان