للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[العقل. . . .]

للأستاذ محمد محمود زيتون

ما أكثر ما يعرف الإنسان! ولكن ما أقل ما يعرف عن نفسه. ولعل حكمة سقراط (اعرف نفسك بنفسك) لم تتغلغل في الأجيال المتصاعدة كما كان ينبغي لها. ولئن صح أن معرفة الإنسان يبدأ بما حوله ثم تنتهي به إلى نفسه، فمعنى ذلك أن الإنسان لما يفرغ بعد من معرفته الخارجية حتى يخلص لمعرفته الداخلية. فلحياة تنمو وتتسع، وتستطيل وتستعرض، وما يزال هو هو المتعجب من أحوالها. ومهما يكن من تقلبات الحياة، فإنه لا بد له من أن يعرف نفسه ليتابع سير القوافل الإنسانية تخب في صحراء الزمان متعبة كليلة. . إذن ليعرف الإنسان نفسه بنفسه.

حقا لقد شغلت الإنسان حياته، فعرف منها ما عرف، وأبقى ما لم يكن يعرف، وظل مرتبطاً بهذه الحياة ينمو معها وتنمو معه، تعلمه وتعمل له، وهو بدوره يعلمها ويعمل لها، غير أنها كانت قبله شيئاً آخر غير ما صارت إليه، بعد أن ملكته عليها طوعاً أو كرها، فقد كانت فوضى لا تجاوب ولا انسجام. غابات ودياج، صواعق وجبال، أمواج وأمطار، كلها رهيب، وكلها غريب. وهل حياة مع الغربة والرهبة؟ وهل حياة مع الوحشة والفوضى؟ لا بد إذن من (عقل) يؤلف بين هذه الكائنات أحياء وأمواتاً. لا بد من عقل يتفهم غايتها ورسالتها. لا بد من عقل للحياة. لا بد من (إنسان).

شرف الإنسان يوم أصبح عقل الحياة، وازداد شرفاً يوم صار عقلاً لنفسه، وإذن فقد مر بتاريخ طويل عريض، وتاريخ الحياة جزء من الحياة. مرت الإنسانية في نظر (كونت بمراحل ثلاث: اللاهوتية، والميتافيزيقية، والعلمية. وهذا التطور - وإن كان غير صحيح إلا أنه غير باطل، لأن اللاهوتية والميتافيزيقيا والعلمية مظاهر تبدي فيها العقل الإنساني حيناً وأحياناً، ومظاهر الإنسانية لا تحصى، إذ لم يكن العقل من زجاج حتى يحطمه التفكير العنيف، بل لم تعهد فيه الوقوف إزاء الحواجز والموانع صاغراً راهباً. وإنما اعتد بنفسه، وكان لا بدله من هذا الاعتداد ليكون تفاوتت درجة الاعتداد بالذات فهبط إلى حد التواضع والتوقف عن العمل والعلم في ثوبي التصرف والشك وبلغ هذا الاعتداد حد الاعتداد على الذات كما عند نيتشه. وابتغى العقل أحباناً طريقاً وسطا بين هذين الطرفين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>