مضى الشعر حقبة طويلة من الزمن مهملاً، كان في أكثره لا يمثل ما وضع له: من تمثيل للشعور وتصوير لخلجات النفس وأحداث الحياة. فكان إبان عصري المماليك والأتراك أشبه بالحرفة المتبذلة منه إلى الفن الجميل الذي تهواه النفوس وتحن إليه الأفئدة، ومن أجل ذلك كانت هذه الفترة من حياة الشعر العربي تعد فترة ركود أو كمون إن صح هذا التعبير.
وإذا كان الأدب عامة والشعر خاصة يمثل التفاعل الوجداني بين الشاعر من ناحية وبين البيئة والزمن الذين يعيش فيهما من ناحية أخرى، فإن العملية الفنية التي يصدر عنها الشعر كانت مقطوعة الدائرة، مهلهلة الأوصال، ذلك لأن البيئة الأدبية في عصري المماليك والأتراك لم تكن من القوة المهيئة للفن في شيء فلم يكن حكام هذا الزمان ورجال الشأن في ذلك الوقت يشجعون الشعراء أو يحمدون ما يقدونه إليهم من قصائد يجودونها ولعل ذلك لا يقتصر على عجزهم على إدراك معاني الشعر، زهدهم عن التمدح به، فقد كانت اللغة التركية اللغة الرسمية للدولة تحتل الصدارة في هذه البيئات. كما كان الشعراء - وهم الذي يمثلون الطرف الثاني من حلقة التفاعل - محدودي الثقافة بسبب ضعف الحياة العلمية إغلاق أبوابها في وجوههم، وزهد المماليك والأتراك فيها واستهانتهم بها.
وفي أوائل القرن التاسع عشر أنسلخ العالم الشرقي من هذه الحقبة المظلمة وأستقبل عصراً جديداً هو عصر محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة، فأعاد للبيئة الشعرية في مصر خاصة والشرق العربي عامة ما كان لها من قوة ومجد، ووصل ما بين الحياة الأدبية قديماً وبين الحياة في عصره، ومن هنا رأب هذا الصدع وسد هذا الفراغ حيث شجع العلماء بالإكثار من البعوث العلمية والأدبية إلى الممالك الأوربية كما شجع طلبة العلم: بفتح المدارس ومساعدتهم على مواصلة تعليمهم. وبهذا استطاع محمد علي أن يجدد الحياة العقلية، وبالتالي أن يخلق أجواء جديدة من الحياة العلمية والأدبية في الشرق العربي. فنال الشعر ما نال غيه من تطور، وكان أن ظهر بعد ذلك - صدى لهذا الإصلاح - جماعة من الشعراء كان البارودي أنبههم ذكراً وأعظمهم شأناً وأحسنهم في عالم الشعر وتاريخه نسجاً