وأختلف النقاد حول مجدد الشعر في هذا العصر فقال جماعة: أنه البارودي بلا منازع. وقال آخرون: إن الشعر لم ينل حظه من التجديد إلا عند شوقي. واختلفت الأقوال في ذلك وتبلبلت أحكام النقاد، وكان مرد هذا التبلبل اختلافهم في مقاييس الحكم. والمنهج العلمي لا يعني بالتجديد الأبتر، بل يريد بالتجديد في الشعر كل ما يمسه من تصوير يتناول أنواعه، وأغراض تتناول موضوعاته، وأساليب تعالج ألفاظه وأخيلته، وما يأتي تباعاً لذلك من عواطف صادقة، ومشاعر حساسة.
نحن نؤمن أن للبارودي وشوقي آثاراً تجديدية في الشعر العربي لا يمكن إنكارها، ويكفيها قوة أن يعرضها المنهج العلمي في صورة تجريبية لا تقبل الجدل. ونحن في هذا نعرض الرجلين في ضوء المنهج العلمي لنحكم لها أو عليهما مقررين ما لكل من آثار في التجديد.
فقد استفاد البارودي من الشعر الجاهلي فأطلع على تراثه وقرأ في تضاعيف كتبه فأحيا ما لحقه من موات وما أصابه من بوار وكساد في السوق الأدبية. وقد كان الشعر العربي في هذا العصر مقبوراً مهجوراً لا تحيط به إلا بطون الكتب، وكان الشعراء في ذلك العصر لا يعنون بدراسة مسائله أو الانتهال من بحاره الزاخرة ومنابعه الأولى. فجاء البارودي واستطاع بثاقب فكره وثقافته العريضة أن يبعث الشعر العربي القديم من مرقده وأن يخرجه من مكمنه وبذلك أعاد للشعر سابق صولته وأهدى إليه عنفوانه وقوته ويكفينا دليلا على ذلك ما نقرؤه في ديوانه من قصائد في الفخر ومقطوعات في الرثاء ونتف في الغزل وشذرات في الوصف استطاع بها أن يكون أكبر مقلد للقدماء وأعظم مجود لأغراضهم بعد أن مضت عليهم عصور سحيقة وأزمان طويلة.
ويكفي أن تقرأ له هذه الأبيات في الفخر لتعرف كيف أوفى على القدماء في فخرياته حتى كاد يبز عمرو بن كلثوم، ومنها: