لأن الصبغة التقليدية كانت قوية في نفسه، فامتدت عدوى التقليد من طريقة التفنن في الأغراض إلى عناصر القصيدة نفسها. فتراه يقتفي آثار الجاهليين - في صناعة الشعر فهو يبدأ قصائده بالغزل كما يبدءونها وينطلق في عناصر القصيدة ولا ينسى فيها الفخر بنفسه كما كانوا لا ينسون أنفسهم.
ونحن لا نعتبره مقلداً صرفاً لسببين: أولهما: الإجادة في أغراضه ومطابقتها لواقع الحياة. وثانيهما: أن نفسه - لما فيها من استعداد وراثي، ولما يحيط بها من أجواء دافعة - أشربت أساليب هؤلاء الشعراء حتى صارت طريقة البارودي أشبه بمشاعر الجاهليين المنبعثة من النفس بلا قصد ممجوج وتكلف ممقوت
ومن هنا نقضي بما قضي به المنهج العلمي: أن البارودي بعض الشعر الجاهلي من رقدته وإن لم يجدد فيه.
فماذا فعل شوقي؟
حين تقرأ لشوقي تحس أن التجديد قد بدا واضحاً في شعره، ذلك لأنه استطاع أن يتحلل من قيود الشعر الجاهلي ومن تقاليده العتيقة فهو ولا يبدأ القصيدة بالغزل كما بدأ القدماء وفعل البارودي، وهو لا يجعل الفخر منتهى همه ومبلغ مزاجه الأدبي كما فعل أسلافه، بل يضرب بإجادته في أطباق الشعر جميعاً وهو في ذلك فضلاً عن تحرره مبتدع، أمين على أساليب الشعر: فهو يسير في (وحدة القصيدة) على طريقة قويمة - يرتضيها المحدثون - فلا يقسم القصيدة أجزاء مفككة لا تآلف بينها، وتستطيع أن تلمس ذلك في وصفه (لحادث دنشواي) فهو حين تحدث عنه تكلم عن كل ما يتصل بهذا الحادث، ذكر الحادث، وذكر شهداءه، وذكر ما قاساه أبناء دنشواي من استعباد، وماجر إلى ذلك من ويل وثبور وتنكيل بالمظلومين فقال:
يا دنشواي على رباك سلام ... ذهبت بأنس ربوعك الأيام
شهداء حكمك في البلاد تفرقوا ... هيهات للشمل الشتيت نظام
مرت عليهم في اللحود أهلة ... ومضى عليهم في القيود العام
كيف الأرامل بعد رجالها ... وبأي حال أصبح الأيتام
عشرون بيتاً أقفرت وانتابها ... بعد البشاشة وحشة وظلام