أعرفت قط خيالاً عاقلاً أيها الأخ العزيز؟ أما أنا فقد عرفته أمس، ولم أتكلف في معرفته مشقة ولا جهدا، ولم أنفق في البحث عنه قوة ولا وقتاً، بل لم أبحث عنه وإنما سعى إلي، أو قل هممت أن أدعوه فاستجاب لي قبل الدعاء، ولكني لم أدعه لأعرفه، فإن عهدي به بعيد، بعيد جدا لا أكاد أذكر أوله، وإنما أعلم أنه رفيقي منذ بدأت أفكر، بل منذ استقبلت الحياة، ما أكثر ما زين لي الأشياء حتى كلفت بها ورغبت فيها، وما أكثر ما بغض إليّ الأشياء حتى نفرت منها وضقت بها، وما أسرع ما اخترع لي أشياء لم أكن أعرفها ولا أقدرها، فإذا هي تملأ قلبي أملا ورجاء، وتدفعني إلى العمل والنشاط، وإذا هي تملأ قلبي يأساً وقنوطاً، وتدفعني إلى الفتور والخمود والانزواء
لقد خلق لي عالماً كاملا بعيد الآماد، متنائي الأرجاء مختلف الألوان، قضيت فيه أيام الصبى وما أكثر ما تمنيت أن أعود إليه، ثم خلق لي عالما آخر ليس أقل من ذلك العالم سعة وتنوعاً واختلافاً، ولكنه مزاج من الجمال والقبح، ومن اللذة والألم، ومن اليأس والأمل، قضيت فيه أيام الشباب وما زلت أتمنى أن أعود إليه، ثم هو يرافقني الآن فيزين لي الحياة قليلا، ويقبحها في نفسي كثيراً، ويحاول أن يخلق لي ما يسر، ويحاول أن يخلق لي ما يسوء، فأطيعه حيناً، وأعصيه أحياناً، ولكنه وفي لي دائماً كلما أردت استعانته على الكتابة والإنشاء؛ وأعترف أيها الأخ العزيز بأني كنت مقتصداً أشد الاقتصاد في الالتجاء إليه والاستعانة به، لأني أعرفه جريئاً مسرفاً في الجراءة، نشيطاً غالياً في النشاط، يخترع من الصور وفنون المعاني ما لا أطيق أن أعرضه على بيئاتنا الاجتماعية التي تقتصد في الاطمئنان إلى وحي الخيال
عرفته وفياً نشيطاً متأهباً دائماً للمعونة كلما دعوته أو فزعت إليه، مقدماً من هذه المعونة أكثر مما أسأله، وأعظم جداً مما أقترح عليه. وقد دعوته أمس فاستجاب لي مسرعاً غير