. . . وتبعتكم - يا صاحبي - بعبراتي، وأنا إذ ذاك صبي مغلول اليد واللسان، فرأيت أطفالاً ثلاثة شردتهم القسوة ففزعوا عن دار أبيهم في ذله وانكسار، وقد هدهم الأسى وأضناهم الحزن وأرهقهم الجوع، على حين قد سمت نفوسهم العالية عن الشكوى وتأبت نوازعهم الرفيعة على الضيم.
وترفعت رجولة الطفل فيك عن أن تنفض أحزان قلبك بين يدي أي رجل من ذوي قرابتك، لأنك في نفسك فوق كل رجل قدرة ويساراً، وأنفت من أن تتحدث بالحادثة الوضيعة لواحد من أهلك خشية أن تحطم كرامة أبيك أو أن تضع من كبريائه. فعشت ساهة من زمان تتخبط في تيه الأفكار المضطرمة لا تهدأ ولا تهتدي، ثم دفعك عقلك الصغير إلى العزبة التي خلفت لك أمك، وهي على خمسة أميال من القرية، فانطلقت أليها - في صحبة أخويك - تغذ السير كأنما كنت تهرب من شبح مخيف يتقصص أثرك. . شبح القسوة التي حرمتك الطعام أحوج ما تكون إليه.
اليوم صائف تتلهب وقدته، ويتوهج أواره، وتتضرم هواجره، وأنت على الطريق لا تستشعر لذة الفيء ولا هدوء الراحة، تطوي السبيل في عزم وشجاعة، يصيبك البهر والتعب فلا تنكص ولا تستسلم، وهمتك تدفعك إلى الغابة؛ وأنا أتبعك بعبراتي؛ وأبوك هناك على السرير يغط في نومه، يستجم من عناء ويستريح من نصب، ولا يحس شيئاً مما تجد أنت وأخواك.
وبلغت العزبة، غير أن الأقدام الصغيرة الناعمة كانت قد دمغها الطريق الوعر الطويل بعلامات ما تزال مرتسمة هناك تذكرك بهذا اليوم. . . باليوم الأغبر.
وهذا الوجه البض الرقيق كان قد زفرت عليه الهاجرة فصبغته بلون قرمزي يشهد بأن القسوة أخت القتل.