وهذه الطفولة الفضة اللينة كانت قد تهالكت من اثر الجهد والعناء، وتضعضعت من طول الضنا والنصب؛ غير أنها استحالت عند نهاية الشرط إلى صلابة رجل شديد يصارع فيغلب ويناضل فيصبر.
وهبطتم العزبة التي تركت لكم أمكم لتأمر في صوت رقيق فيه رنات الطفولة، ولكنك كنت تجهد أن تنفث فيه صرامة الرجل وخشونته، وأنت ما تزال صبياً لم تبلغ بعد سن الشباب.
ورأى الفلاحون الذين غمرهم فيض أهلك، ولبسوا ثوب النعمة من سخاء أبويك. . . رأوا أبناء سيدهم يتكفأون من أثر الابن والضنا، وعليهم سمات الأسى والضيق، فنظروا ثم أطرقوا. وأطرق من بينهم شيخ كبير وهو يقول (لا حول ولا قوة إلا بالله) ثم تتابعت على خديه عبرات حرى لم يستطع أن يكفكفها ولم يستطع معها صبراً، فطار إلى ناظر العزبة يخبره خبر الصبية الأثرياء الذين أرغموا على أن يقطعوا الأميال الطوال سيراً على القدم، والحر ينضج جلودهم ويؤذي عيونهم ويرهق جلدهم؛ الصبية الذين ذاقوا على حين غفلة مس الجوع والقسوة والتشرد.
جاء ناظر العزبة مهرولاً يخب في ثوبه الفضفاض، واندفع نحو الصبية يربت على أكتافهم في رقة وحنان. ولا عجب فلقد كان هو - منذ زمان - طفلاً نبذه أبوه فما يسبغ عليه من عطفه، ودعته زوجة أبيه عن الدار التي ولد فيها فما تفيض عليه بلقمة ترد من سغبه ومن ذلته. ولكنك - يا صاحبي - ترفعت عن أن تستشعر روح الطفولة في وقت الشدة، فدفعته عنك في قوة فارتد وفي عينيه عبرات. ثم انتحيت ناحية تأمر بصوت أجش خشن (أنا الآن هنا سيد هذه العزبة!) فقال الرجل (نعم يا سيدي، ومن قبل). ورحت تأمره وهو يحاول أن يستشف جملة الخبر بين ثنايا طفولتك التي لا تعرف المكر ولا الخداع ولكنك كتمت عنه الحديث خشية أن تحطم كرامة أبيك أو أن تضع من كبريائه.
يا عجباً لهذه الرجولة الباكرة! إن صفعة واحدة من صفعات القسوة الجافية قد حلفت منك - با صاحبي - رحلا في أهيب طفل.
وأقبل الليل، فاستسلمت - في وحدتك - إلى خواطر هادئة لطيفة، والأفكار الجميلة تداعب روحك لأنك تنسمت روح الحرية والراحة، وبدا أنك نفضت عهد الإسار والخضوع عهد الحاجة والطلب، عهد الطفولة المقيدة بأغلال الأبوة الظالمة، وتراءى لك أنك أصبحت سيد