هذه العزبة وسيد هذه الدار وسيد هذا القوم، وأنك تأمر فيخضع الصغير وتنادى فيلبي الكبير، وأن قلبك قد ملأته السيطرة وأن جيبك قد أفعمه المال. ولكن نفسك لم توسوس لك بأن تندفع في شهوة وضيعة، ولا أن تسعى غلى لذة تافهة، ولا أن تنغمر في نزق طائش، لأنك نشأت في بيت فيه الدين والورع فأنصرف قلبك عن الغواية وتحولت نوازعك عن المجون.
وعشت ساعة في خواطرك الجميلة الهادئة ثم غلبك النوم يا للطفولة البريئة! لقد نسى الصبي - حين شعر بالهدوء والراحة - أنه يعاني محنة ضخمة عاتية، نزلت به على حين فجأة فأفزعته عن أبيه وعن أهله وعن داره في وقت معاً. لقد نسى ما حواليه فاستقر في طفولته البريئة الصافية يحلم ويبسم.
أما في القرية فماذا كان هناك - يا صاحبي؟
كادت أستار الليل تنسدل فتلف أرجاء القرية في الظلام والسكون، وأبوك في شغل لم يجد فقدك، ولم يحس وقع القسوة التي ضربك بها منذ ساعة. وأنى له أن بفعل وهو يراك لا تطمئن - أبداً - إلى الدار إلا حين يصيبك النصب والجهد من طول اللعب والجري، ثم هو قد أمر زوجته أن تمسح غلطته فترسل إليكم الطعام الذي رفعه من بين أيديكم ولكنها أبطأت وتراخت. انسدلت أستار الليل والدار خالية من عبثك خاوية من لهوك وضجتك، فشعر أبوك بأنك لست هنا، فأرسل من يفتش عنك في أنحاء القرية. وجلس هو إلى نفسه وقد تيقظ ضميره وتقلب قلبه. . .
وترامى إلى خالتك أن أباك قد قسا عليكم قسوة أفزعتكم عن الدار، وأن الدار قد لفظتكم إلى حيث لا يعلم إنسان.
وصرخت خالتك من هول الخبر صرخة اهتزت لها أركان الدار، ثم اندفعت إلى الشارع عارية الرأس حافية القدم وهي تصرخ صراخاً فيه الفزع والرعب، صراخاً يتحدث عن أسى الأم فقدت بنيها الثلاثة دفعة واحدة. اندفعت السيدة الثرية التي لم يرها الشارع منذ أن كانت طفلة إلا من وراء حجاب. . . اندفعت إلى الشارع عارية الرأس حافية القدم، لم يستطع واحد من أهلها أن يردها عن الغاية التي تريد. ودخلت خالتك بيت أخيها خالك تفزعه بالنواح وتستحثه بالأسى؛ وهو من بيت فيه السطوة والجاه، وفيه السلطان والثراء،