في حياتنا الأدبية ظواهر تستوقف النظر، وتغرى بالبحث، وتدعو إلى التأمل والمراجعة. وتستطيع أن تسمى كل ظاهرة من هذه الظواهر مشكلة تتعدد فيها الجوانب، وتتشعب الزوايا، وتبقى بعد ذلك في انتظار العلاج! ولك أن تضع مشكلة النقد الأدبي في مقدمة المشكلات التي تعانيها الحياة الأدبية عندنا في هذه الأيام؛ فالنقد الأدبي في مصر هو (نقد الأغمار) كما سماه الأستاذ العقاد وأصاب في التسمية. ولقد تناول الأستاذ العقاد هذه المشكلة في معرض حديثه عن أحد الكتب التي ظهرت حديثاً حول فتنة عثمان، تناولها من زاوية الإشارة ولفت الأنظار، لا من زاوية النفاذ إلى مكامن العلل والأسباب، ومن هنا كانت اللفتة العابرة في حديثه أشبه بلقطة (الكاميرا) السريعة التي تجيد اختيار الزاوية عند التقاط الصورة. . . أما أنا فأحب أن ألتقط الصورة من زواياها المتعددة لأستطيع أن أعرض للمشكلة لوحة لا تنقصها وفرة (الرتوشن)! أول زاوية يمكن أن ننظر منها إلى المشكلة هي أن أكثر الذين يتولون صناعة النقد لا يصلحون لها؛ فبعضهم تنقصه الثقافة الرفيعة فهو من أنصاف المثقفين، وبعضهم تنقصه التجربة الكاملة فهو من المبتدئين، وبعضهم ينقصه الذوق المرهف فهو من ضعاف الملكة وقاصرى الأداة. هذه الأركان الثلاثة من أركان النقد الأدبي نضعها مجتمعة في كفة، لنضع في الكفة الأخرى ذلك الركن الخطير الرابع ونعنى به الضمير الأدبي. . . وهو وحده مشكلة المشكلات وماذا تجدي الثقافة، وماذا تجدي التجربة، وماذا يجدي الذوق، إذا كان الضمير الأدبي لاوجود له؟ لاشيء يجدي على الإطلاق، لأن الضمير يوجه الثقافة فلا تجوز، ويهدي التجربة فلا تضل، ويرشد الذوق فلا ينحرف. . . وماذا نفعل وأصحاب الضمير الأدبي في مصر هم فئة من ذوى الأهواء والأغراض، يسيرون في ركاب هذا ذاك، يصفقون وليس هناك ما يدعو إلى ما يدعو إلى التصفيق، ويهتفون وليس هناك ما يدعو إلى الهتاف؟! الضمير الأدبي في مصر هو مشكلة المشكلات. وأعجب العجب أن الذين يتولون صناعة النقد في هذه الأيام لا يشعرون بأنهم معرضون لميزان الناقدين، وأنهم حين يظفرون بثناء بعض الناس يفقدون احترام الآخرين. . . إنهم لا يشعرون بشيء من هذا لأنهم أغمار، ولأنهم أصحاب أهواء وأغراض!