للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية]

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

- ٣ -

تمتاز فلسفة الفارابي بظاهرتين رئيسيتين: نزعة روحية نامية، واتجاه صوفي واضح. والمذهب الروحي والتصوف يقتربان في الواقع ويتلاقيان في نواح كثيرة. وهاتان الظاهرتان تبدوان لدى فلاسفة الإسلام بدرجات مختلفة. وقد نفذ التصوف الفارابي على الخصوص إلى أعماق المدرسة الفلسفية العربية وأثر في صوفية المسلمين بوجه عام. ولم يقف أثره عند القرون الوسطى، بل تعداها إلى التاريخ الحديث. وبما أنا أسلفنا القول في شرح نظرية السعادة الفارابية وبيان مصادرها الأرسطية والأفلوطينية فأنه يجدر بنا الآن أن نلقي نظرة على الأثر الذي أحدثته فيمن جاء بعد الفارابي من فلاسفة ومفكرين؛ وكي تكون هذه النظرة مستوفاة يحسن أن نبين من جانب إلى أي حد تأثر كبار فلاسفة الإسلام بآراء الفارابي التصوفية، كما تأثروا بأبحاثه الأخرى؛ ومن جانب آخر ينبغي أن نحدد العلاقة بين هذا التصوف الفلسفي وما ذهب إليه صوفية المسلمين المتأخرون. وحبذا لو استطعنا أخيراً أن نوازن بين نظرية السعادة الفارابية وبعض الأفكار الصوفية التي اعتنقتها طائفة من الفلاسفة المحدثين. وبالجملة سنتابع هذه النظرية في خطواتها المتتالية إلى أن نسلمها إلى العصور الحديثة، وسنحاول عرض صورة مختصرة لتاريخها العام.

إذا كان في فلاسفة الإسلام من يصح أن نسميه تلميذ الفارابي وخليفته الأعظم فهو بلا جدال ابن سينا. حقا إن التلميذ عدا على الأستاذ وأخفى اسمه وانتزع مكانته وقضى على شهرته، وأصبحنا ونحن نعزو إلى ابن سينا آراء وأفكاراً هي في الحقيقة من صنع الفارابي وابتكاره؛ بيد أن الأول يعترف للثاني بأياديه عليه، ويقر له بالسبق والأولوية، ويدين له بالخضوع والأستاذية. ولقد بلغ من تعلق ابن سينا بنظريات أستاذه أن بذل كل مجهود في تفهمها وأفاض في شرحها وتوضيحها بحيث منحها نفوذا وسلطاناً لم تنله على يدي صاحبها ومبتكرها. ورب فكرة فارابية غامضة مبهمة تبدو لدى ابن سينا، وهو صناع اليدين، في ثوب قشيب ومظهر خلاب. وإذا كان ابن رشد هو شارح أرسطو غير منازع في الفلسفة المدرسية، فإن ابن سينا هو شارح الفارابي الماهر في الفلسفة الإسلامية. وقد يؤخذ علينا

<<  <  ج:
ص:  >  >>