أحياناً أنا نحاول تحليل أفكار الفارابي على ضوء ما كتب ابن سينا، إلا أن الرجلين في رأينا متضافران ومتكاملان، يوضح كل واحد منهما صاحبه ويتممه. ولئن كان للفارابي فضل السبق، فلابن سينا فضل البيان والإيضاح. ومن ذا الذي يدعي أن في مقدوره دراسة أرسطو دراسة كاملة دون الرجوع إلى شراحه من المشائين وغيرهم؟ ولو احتفظ لنا الدهر بكل ما كتب الفارابي فلعلنا لم نستعن دائماً على تفهمه بمؤلفات أتباعه؛ فأما وما وصل إلينا من كتبه نزر يسير، فنحن مضطرون إلى توضيح غامضه بمختلف الوسائل. على أن المؤرخ الذي يعنيه أن يبين كيف نشأت فكرة ما، يلزمه كذلك أن يوضح كيف نمت وتطورت.
اعتنق ابن سينا مختلف آراء الفارابي التصوفية وتولاها بالشرح والدرس في رسائل متعددة نخص بالذكر منها كتاب الإشارات والتنبيهات، وهذا الكتاب بين المؤلفات السينوية (نسبة إلى ابن سينا) يتيمة العقد وجوهرة التاج الثمينة وثمرة النضوج الكامل. يمتاز بسمو أسلوبه وعمق أفكاره وتعبيره عن آراء ابن سينا الخالصة التي لا تشوبها نظريات المدارس الأخرى. وقد وقف صاحبه الجزء الأخير منه على الأبحاث التصوفية، ويقع في نحو خمسين صفحة تعد من أحسن ما خلفته المدرسة الفلسفية الإسلامية في هذا الباب. فقد أخذ ابن سينا على حسب عادته أفكار الفارابي وفصل القول فيها وعرضها عرضاً مسهباً مرتباً. فهو يحدثنا عن (التجريد) و (البهجة والسعادة) و (مقامات العارفين) و (أسرار الآيات) ويشرح نظرية الاتصال شرحاً مستفيضاً. وهذا هو القدر لذي جمعه وترجمه مهرن إلى الفرنسية ونشره تحت عنوان: ' وهاكم نموذجاً من حديث ابن سينا العذب ولغته السامية التي تترجم عن معان سبقه بها الفارابي يقول: (إن للعارفين مقامات ودرجات يخصون بها في حياتهم الدنيا دون غيرهم. فكأنهم في جلاليب من أبدانهم قد نضوها وتجردوا عنها إلى عالم القدس. ولهم أمور خفية فيهم، وأمور ظاهرة عنهم، يستنكرها من ينكرها، ويستكبرها من يعرفها، ونحن نقصها عليك. . . العارف يريد الحق الأول لا لشيء غيره ولا يؤثر شيئاً على عرفانه، وتعبده له فقط؛ لأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه، لا لرغبة أو رهبة. . . العارف هشّ بشّ بسّام يبجل الصغير من تواضعه مثل ما يبجل الكبير، وينبسط من الخامل ما ينبسط من النبيه. وكيف لا يهش وهو فرحان