للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بالحق وبكل شيء فأنه يرى فيه الحق. وكيف لا يسوي والجميع عنده سواسية؟. . العارف لا يعنيه التجسس والتحسس، ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر كما تعتريه الرحمة فإنه مستبصر بسر الله في القدر. وإذا أمر بالمعروف أمر برفق ناصح لا بعنف مُعَير. وإذا جسم المعروف فربما غار عليه من غير أهله. العارف شجاع، وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت؟ وجواد، وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل؟ وصفَّاح، وكيف لا ونفسه أهون من أن تحرجها زلة بشر؟ ونساء للأحقاد، وكيف لا وذكره مشغول بالحق).

يصف ابن سينا كأستاذه المراحل التي تقود المرء إلى السعادة ويتكلم عن الزهد والعبادة، ثم عن العرفان الذي هو السعادة الحق. (فالمعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد، والمواظب على نفل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد، والمنصرف بفكره إلى قدس الجبروت مستديما لشروق نور الحق في سره يخص باسم العارف). وليست السعادة مجرد لذة جسيمة، بل هي غبطة روحية وسمو معنوي واتصال بالعالم العلوي؛ هي عشق وشوق مستمران، وما العشق الحقيقي إلا الابتهاج بتصور حضرة الحق؛ وما الشوق إلا الرغبة الدائمة في كمال هذا الابتهاج. (والنفوس البشرية إذا نالت الغبطة العليا في حياتها الدنيا كان أجل أحوالها أن تبقى عاشقة مشتاقة لا تخلص من علاقة الشوق، اللهم إلا في الحياة الأخرى. وتتلو هذه النفوس نفوس بشرية مترددة بين جهتي الربوبية والسفالة على درجاتها، ثم تتلوها النفوس المغموسة في عالم الطبيعة المنحوسة، التي لا مفاصل لرقابها المنكوسة). والوسيلة الأولى والرئيسية لإدراك السعادة هي الدراسة والبحث والنظر والتأمل. وأما الأعمال البدنية والحركات الجسمية ففي المرتبة الثانية، ولا يمكن أن تحل محل التهذيب الفكري والرقي العقلي بحال.

قد يخيل للقارئ بعد هذا التحليل أن ابن سينا أميل من أستاذه إلى متصوفة القرن العاشر أمثال الجنيد والحلاج. ولا سيما وكتاباته مملوءة بمصطلحات الصوفية وألفاظهم الفنية. فهو يردد كلمة الزهد والوجد والقوت، ويبين حقيقة المريد والعارف والعابد، ويحلل بعض العواطف النفسية كالعشق والشوق التي شغلت كبار متصوفي المسلمين. غير أنه على الرغم من كل هذا لا يزال ابن سينا وفياً لأستاذه في نظرياته التصوفية كما وفي له في كل مذهبه الفلسفي، ولا أدل على هذا من إعراضه عن فكرة الاتحاد التي زعمها الجنيد

<<  <  ج:
ص:  >  >>