يأخذ الإنسان ما عمله غيره وسلفه ويزيد عليه، يبدأ من حيث انتهى سلفه ويدخل تحسيناً عليه، ثم يسعى للزيادة على ذلك. بينما يأخذ الحيوان ما عمله سلفه ويبدأ حيث أبتدأ (سلفه) وينتهي به دون زيادة. هذا فرق مهم بين الإنسان والحيوان، وهذه ميزة اختصه الله بها، ولولاها لما كان هناك تقدم أو حضارة. وعلى هذا ليست المدنية وما نراه من مظاهر العمران إلا مجموع مجهودات قام بها الأفراد في سبيل ترقية المجتمع من نواحيه المتعددة. وإذا قيل أن جاوس، وفير، اخترعا التليفون، فليس معنى ذلك أن لهما كل الفضل في إيجاده، وأنهما توصلا إليه بدون الاستعانة بما عمله غيرهما، بل إن لبحوث الذين سبقوهما فضلاً كبيراً عليهما، فلولا ليساج العالم السويسري الذي ظهر في القرن الثامن عشر للميلاد، ولولا سومرنج الألماني الذي قام بعمل التلغراف بواسطة التيارات الكهربائية من بطارية وبواسطة الماء لإعطاء الإشرات، ولولا أمبير الذي نقل في سنة ١٨٢٠ الأشرات بواسطة التيارات الكهربائية في عدة إبر مغناطيسية، أقول لولا كل هؤلاء وغيرهم لما استطاع جاوس وفير أن يفكرا في التلفون وأن يتوصلا إلى استعمال المغناطيس الكهربائي، حتى أصبح للتلغراف قيمة عملية يمكن الاستفادة منها.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أن للتحسينات الجمة التي أدخلها العلماء ستهيل وكوك ومورس وستون، الفضل الأكبر في تعميم استعماله وجعله سهل التناول، وها نحن أولاً نرى العلماء يدخلون عليه تحسينات أخرى ويتفننون في صنعه.
وليست نظرية النسبية بأكملها من نتاج طريحة العالم الشهير البرت انشتين، وقليلون جداً الذين يعرفون أن لمجهودات وبحوث لورانتز العالم الهولاندي وغيره من علماء الرياضة والطبيعة فضلاً عليها، فلولاهم ولولا كتاباتهم وبحوثهم وتمهيداتهم لما استطاع انشتين أن يخرج النسبية بشكلها الذي نعرفه الآن.
فليست الاختراعات والاكتشافات إذن إلا نتيجة مجهودات جبارة قام بها أفراد مختلفون اشتغلوا في ميادين العلوم والفنون، وهي لم تظهر بشكلها العملي المفيد إلا بعد تمهيدات