للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[ربع مية. . .]

للدكتور طه حسين

يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد

وقفت فيها أصيلاً لا أسائلها ... عيت جواباً وما بالربع من أحد

ولم يكن ربع مية بالعلياء فالسند، وإنما كان في صحن الأزهر، وعند القبلتين القديمة والجديدة، حيث كانت الحركة المتصلة في الليل والنهار، وحيث كان ذلك الدوي الغريب الذي لم يكن ينقطع إلا في أوقات الصلاة العامة. والذي كثيراً ما فكرت فيه وسألت نفسي عن هذه الأجزاء التي لا تحصى، والذرات التي لا تعد، والتي كانت تؤلف جوهره وتكون مزاجه، وتجعل منه وحدة لا يظهر فيها الاختلاف، ولا يحس فيها التباين، فإذا حللتها رأيت اختلافاً لا حد له، وتبايناً ليس له آخر: رأيت أصوات قوم يتحدثون في متاع الدنيا ولهوها، وأصوات قوم آخرين يتحدثون في جد الحياة وآلامها، وقوماً يذكرون الله، وقوماً يدرسون العلم، وقوماً يتلون القرآن، وقوماً يقرأون ما يخطر لهم وما لا يخطر لك على بال، وقوماً يخوضون فيما تظن وما لا تظن من فنون الحديث، ومن هذه الأصوات كلها ينعقد صوت واحد قوي ضخم عميق عنيف متحدٍ يملأ فضاء الأزهر منذ تدخله إلى حين تخرج منه، ويملأ فضاء الأزهر من أي باب ولجته، إلى أي باب تجاوزته، ويملأ فضاء الأزهر في جميع أرجائه وأنحائه على كثرة ما فيها من الانحناء والالتواء والانعطاف.

نعم في هذا الربع الذي لم يكن يخلو في نهار ولا في ليل، ولم يكن يهدأ في شتاء ولا في صيف، ولم يكن يشعر بالحاجة إلى الحياة لأنه كان حياة كله. وكان حياة كأشد ما تكون الحياة قوة وحركة وإنتاجا. في هذا الربيع وقفت كما وقف النابغة في ربع مية، ولكني لم أقف أصيلاً وإنما وقفت بعد صلاة العتمة ففهمت هذا النحو من شعر القدماء، أو قل أحسست هذا النحو من شعر القدماء، فما أكثر ما نفهم الشعر القديم والحديث دون أن نحسه كما يحسه قائلوه. ودون أن نتأثر به كما يتأثر به الشعراء.

وكانالأزهر كربع مية، خلا بعد عمران، وسكن بعد حركة، وأعيا عن جواب السؤال حين وجه إليه السؤال، وكان الأزهر كربع مية قد طال عليه الأمد وبعد به العهد. طال عليه الأمد أكثر مما طال على ربع مية فما أضن أن ذلك الأمد الذي ذكره النابغة والذي طال

<<  <  ج:
ص:  >  >>