للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

على ربع مية كان طويلا مسرفا في الطول يكاد يبلغ ألف سنة كهذا الأمد الذي أذكره حين حين أتحدث عن الأزهر والذي ذكرته حين تحدثت إلى الأزهر منذ أسبوعين. وكان الأمد بين الأزهر وبيني قد طال. فما أذكر أني دخلته منذ بضع عشرة سنة، وما أذكر أني طوفت فيه منذ أكثر من عشرين عاما، ولكني حملت في نفسي دائما للأزهر صورة حية قوية شديدة الحركة عظيمة النشاط رائعة الدوي عسيرة التحليل) وكنت أسعى إلى الأزهر منذ أسبوعين وإن قلبي ليخفق سعادة واغتباطاً وحنينا إلى هذه الصورة التي صحبتني ربع قرن وطوفت معي في أقطار الأرض واستقبلت معي الوان الخطوب لم تضعف ولم تفتر ولم تتضاءل. والتي كنت أسعى بها إلى أصلها الأصيل في صحن الأزهر وعند القبلتين لتستمد قوة إلى قوتها وحياة إلى حياتها، فلما بلغت الربع - وليتني لم أبلغه - نظرت فإذا الصورة أقوى من الأصل، وإذا الأزهر الذي أحمله في قلبي أشد حركة وأعظم نشاطا وأقوى حياة من الأزهر القائم هناك في حي القاهرة.

قال أصحابي وكلهم مثلي أبناء الأزهر الذين بعد عهدهم به وطال فراقهم له: وما يمنعنا أن نختم رمضان بزيارة قصيرة للأزهر نحيي بها العهد القديم ونذكر بها أيام الشباب. قلت وأني في ذلك لراغب، وأني إلى ذلك لمشوق. ومضينا إلى الأزهر ونحن نقدر أن سنجد فيه تلك الصورة التي الفناها، وأن سنسمع فيه ذلك الدوي الذي عرفناه، وأن سنختلط به اختلاطاً، ونمتزج به أمتزاجاً، ونقف فيه كما كنا نفعل أيام الشباب وقفات فيها الجد الخصب، وفيها هزل يشوبه الحب والعطف. نتنقل بين هذه الحلقات المنبثة في أرجائه نسمع لهذا الشيخ وهو يقرأ الحديث أو التفسير أو يقص قصص الوعاظ فيعجبنا صوته وإلقاؤه وفهمه وإفهامه فنعجب به ونبسم له. ونتجاوزه إلى ذلك الشيخ فيضحكنا صوته أو القاؤه أو لازمة من لوازمه أو بعض ما يدفع إليه من الخطأ في الفهم أو السخف في الإفهام فننصرف عنه ضاحكين متفكهين، حتى إذا قضينا من هذا كله إربا خرجنا وقد ذكرنا أنفسنا وسعدنا بلقاء تلك الأيام العذاب.

كنا نقدر هذا كله فلما دخلنا الأزهر لم نرى إلا وحشة ولم نحس إلا صمتاً، لم نعرف شيئاً ولا أحدا، ولم يعرفنا شئ ولا أحد. وإنما كنا أشبه شئ بالأشباح أو الأطياف تمضي في مكان خال موحش لا حياة فيه ولا عمران، وأشهد لقد لقينا خدم الأزهر باسمين لنا محتفين

<<  <  ج:
ص:  >  >>