للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بنا، يسعون بين أيدينا ومن حولنا، كأنما نحن جماعة من السائحين الذين لا علم لهم بالأزهر ولا معرفة لهم بخفاياه، فهم يهدوننا ويدلوننا ويرفقون بنا في الحديث. ويحكم! فأنا أعلم منكم بالأزهر وأعرف بمعالمه، وإنا لم نأت لنلقى منكم هذا الرفق، وإنا لنفضل أن تلقونا بما كان يلقانا به أسلافكم من ذلك العنف الذي كانت تحبه نفوسنا وان أظهرنا منه النفور. أين الجبلاوي وأعوان الجبلاوي؟ اين تلك العصي التي كانوا يهزونها فتسمع لها أصوات خفيفة ولكنها مخيفة؟ أين الغراب وأيام الغراب؛ وأين رضوان وجنود رضوان؟ أين الجندي وأعوان الجندي؟ أين هؤلاء جميعا وما كان يحيط بهؤلاء جميعا من جلال كنا نزدريه وكنا نضيق به، وها نحن أولاء نذكره الآن فتذهب نفوسنا في أثره حسرات. ولست أدري من هذا الذي عرفنا فأسرع بأسمائنا إلى رجل كريم من أصحاب الفضيلة المفتشين. وإني لأطوف مع صاحبي في الأزهر يتحدث إلي وأتحدث إليه بهذا الصوت الهادئ الخافت الذي نصطنعه إذا خلا أحدنا إلى صاحبه. كأنما نحن في دار من الدور أو في بيعة من البيع التي يحسن فيها الهمس لا في الأزهر الذي لم يكن يحب ألا الجهر ورفع الصوت، وما راعنا إلا صاحب الفضيلة وقد أقبل علينا طلق الوجه باسم الثغر مبسوطالأسارير يحينا تحية الرجل الكريم، ويدعونا إلى ضيافته ويلح علينا في أن نصعد معه إلى حيث يتلى القران ويشرب الشاي. .

وكنا نود لو استطعنا أن نخلو إلى هذه العمد القائمة لنجدد عهدنا بها، ولنبثها ذكرى تلك الايام، ولنسألها عما ألم بها من الحوادث وأختلف عليها من الخطوب منذ فارقناها، ونظفر منها بهذا الصمت الذي هو أفصح من الكلام وأبلغ منه أثراً في النفوس، ولكن الشيخ دعى فلم يكن بد من أن نستجيب، فمضينا مع الشيخ إلى حيث أراد، وصعدنا معه إلى غرفة من تلك الغرفات التي كنا نذكرها أيام الصبا فتمتلئ قلوبنا لذكرها مهابة وإجلالا ورهبة وإكبارا. في تلك الغرف كان يستقر شيخ الأزهر ومفتي الديار. وفي تلك الغرف كانت تدبر أمور الأزهر وتصرف شؤون العلماء والطلاب، وحول تلك الغرف كانت تتطاير طائفة من الأحاديث والأساطير عن حياة الشيوخ وأقوالهم وأعمالهم. وكانت هذه الأحاديث تصل إلينا فنعجب بها ونبسم لها ونلتمس فيها العبرة والعضة والفكاهة. وكنا نتنقل بهذه الأحاديث إلى بلادنا في الريف فنقصها على آبائنا وإخواننا فيعجبون بها ويكبرون أصحابها ويتخذونها

<<  <  ج:
ص:  >  >>