وجدتُني بعد خروجي من المستشفى أشبه شيء بالآلة الميكانيكية الموهونة، تزلزلت مفاصلها وانحلت عراها، فشدوا بعضها إلى بعض بخيوط غليظة بالية؛ فكنت إذا نهضت نهضت متحاملاً على ذراع، وإذا مشيت مشيت متثاقلاً على حذر. وتلقيت على هذه الحال دعوة المجمع العلمي العربي بدمشق إلى مهرجان المعري، فارتحت إلى هذه الدعوة، لأنها ستتيح لي سعادة النفس بلقاء الإخوان، ومتعة العقل بشهود المهرجان، وصحة البدن بهواء الجبل، وتأدية الواجب لشيخ المعرة
ولكن السفر شاق، والأمد بعيد، والآلة الهشة لا تزال من الوهن تميد وتتخلع. فقررت الاعتكاف عن دنيا الناس حيناً من الدهر تحية وزلفى لإمام المعتكفين في مهرجانه؛ وقلت لنفسي: هي خلوة صوفية يثوب فيها الجسم، وتصفو بها الروح، وتشفُّ بيننا وبين أبي العلاء الحجب؛ فنخلو إلى روح الشاعر في كتبه، ونجلو لإخواننا المحتفلين فناً من أدبه. ووقفت بنا السيارة على باب صومعتي الريفية، وهي قائمة وحدها بين الحقول الخضر والأشجار الغين، كما كان يقوم عش آدم في الجنة حين لم يكن على الأرض إنسان غيره وغير زوجه، فدخلتها دخول الناسك الشريد وجد الظل والماء بعد وقدة الهجير وشدة الظمأ. وهبّت على الجسد العليل نفحات النسيم البحري فأذهبت عنه ما أرمضه في القاهرة من لفحات يوليو القائظ. وغمرني السكون الريفي الحي في المنزل والحديقة، وفيما حولهما من مزارع القطن والرز، فسبحتُ في فيض من سكينة الفردوس اختنق فيها ما بقى عالقاً بسمعي من أصداء الحياة وضوضاء المدينة. وقطعت عن عشي صلات العالم الخارجي فلم أعد أرى غير مخضرٍّ أو مفترٍّ، ولم أعد أسمع غير صادح أو باغم.
تذكرت حينئذ ناسك المعرة، وقد اختصر العالم في داره، واختزن العلم في صدره، ثم كفاه الله هم الرغيف والمرأة، فانفلت من إسار العيش، وانطلق سابحاً في جواء الفكر الحر، ينظر من علٍ إلى بني آدم المساكين، وقد سلطتهم الطبيعة على أنفسهم، فتفارسوا بالغرائز، وتنافسوا في الصغائر، وزعموا أنهم العلة الغائية لخلق السموات والأرض وما دب على ظهرها، وتولد في بطنها، ونما في ثراها، ولو أنك نضوت عنهم ثياب التمثيل، وجردتهم من وسائل التمويه والتجميل، لما وجدتهم في حقيقة الأمر يختلفون عن جماعة الكلاب تقتتل على جيفة، أو تختصم على كلبة!!