. . . ولم تكن إلا سنة واحدة حتى تمزق ذلك الثوب. وبدت من ورائه امرأة كهذه المئات من النساء: نبصرهن كل يوم فلا نكاد نحس بهن ولا يهجن فينا شعوراً
وكيف تبدلت؟ ألم يكن يهيم بها ويراها جميلة فتانة؟
بلى. ولكنه كان يراها جميلة لأنه يحبها. والمرء - كما يقول ده كارت - يرى من يحب جميلا، ولا يحب من يراه جميلا، وإذا هو أحب امرءاً أسبغ عليه من خياله ثوبا يراه به أجمل الناس
- وذلك الحب المضطرم، الذي كان يخفق به قلبه في صدره. وبه تجري دماؤه في عروقه؟. . أليس عجيباً أنه قد مات؟ أليس لها هاتان العينان العميقتان كالبحر. الصافيان كأديم السماء. . أليس لها ذلك الجسم الأبيض الغض، أليس لها تلك الرشاقة الفاتنة، فكيف إذن يسلوها ويموت حبه إياها؟
- قد مات هذا الحب. لأنه لم يكن عذريا صافيا. وهي جميلة لا تزال، ولكنه شبع منها كما يشبع الإنسان من الطعام مهما لذ وطاب. ولو تنزه حبه عن مأرب الجسم، وعقد الصلة بين الأرواح لكتب له بالبقاء.
وكان الأستاذ صالح عاكفا على نار جيلة لا يتكلم، فرفع رأسه وقال:
- أي بقاء؟ أسمعت أن حبا كتب له البقاء، إن الحب يا صاحبي كالزهور العطرة ينعشك عطرها ويعجبك لونها ولكنها لا تعيش طويلا. ثم ما هو هذا الحب العذري الذي تتحدث عنه؟ انه لا يوجد إلا في مكانين: القاموس، وأدمغة أمثالك من الناس!
وأقبل على نار جيلته يصلحها ويدعو لها بجذوة من نار. ولم يلق بالا لجواب فوزي، فجذبه من طوقه وصاح به:
- إلا تسمع؟ أنت دائماً هكذا. . . تريد ان تتكلم ولا تتنازل للإصغاء.
فاصلح ثيابه باسما وقال له:
- ولماذا تريد أن أصغي إليك؟
- لأنك مخطئ. . . مخطئ. . . أريد أن أوضح لك الحقيقة.