للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[صور من الحياة:]

زوجة تنهار!

للأستاذ كامل محمود حبيب

هب الفتى من فراشه - لدى مطلع الفجر - يستقبل هبّات النسيم اللينة الرقيقة ويستمتع بأنفاس الصبح الندية وهي تعابث فلول جيش الليل المتدافعة نحو الغرب في رهبة وفزع. ووقف يتأمل ماء النيل وهو ينسرب متدفقاً إلى غير غاية، ويرنو إلى الأشجار الباسقة على الضفة الأخرى، وإن أغصانها المتعانقة لتترنح في فتور وتراخ كأنما تجاهد لتلقي عن نفسها لباس النوم الكثيف. وأحس الفتى - وهو مكانه - بالقوة تتدفق في أعصابه وبالنشاط يمرح في إهابه وبالنشوة تسري في دمه، ونسى يوم أن كان طفلاً رطيب العود لين العظم مسلوب القوة واهي الإرادة وقد أصابه اليتم والفقر في وقت معاً، ففقد أباه صغيراً ليعيش إلى جانب أمه وحيدين في ركن من دار، ونسى يوم أن كان صبياً تضنيه المسكنة وتفريه الذلة، يحس وطأة الشظف ولأواء الضيق، يتوارى - أبداً - عن أترابه خشية أن تقتحمه عين وهو في أسمال بالية وضيعة، وخيفة أن يناله لسان سليط وهو يقضم كسرة خشنة تافهة. ونسى يوم أن صار شاباً ينطوي على نفسه في تخاذل وهوان لأنه لا يستطيع أن يتطاول إلى مكانة رفاقه وهو خاوي الوفاض صفر اليدين. لقد كانت أمه تستفرغ وسع الطاقة لتدفع ثمن مكانه في المدرسة ثم يصيبها البهر والإعياء فلا تستطيع أن تحبوه بالجديد من اللباس ولا اللين من العيش. . . فعاشت إلى جانبه تدفعه إلى الغاية التي تصبو إليها نفسها وتصبر هي على الجوع والعري في رضى وإيمان.

أما الآن فقد تخرج في مدرسة المعلمين العليا وعين مدرساً في مدرسة (كذا) الابتدائية، فهو يستطيع أن يحبو نفسه بالكريم من الطعام والشريف من اللباس في غير عنت ولا إرهاق، والدنيا رخاء. فراح يتأنق في مأكله وملبسه ومسكنه ويغدق على نفسه من أفانين المتعة ما أعجزه أن يناله في عمر الفاقة والمتربة. وأحس اللذة والسعادة في حياته الجديدة لا يشوبهما إلا أنه فقد أمه. . . القلب الوحيد الذي يتوثب حناناً وعطفاً ويفيض شفقة ورحمة. فعاش من بعدها وحيداً، لا يصحبه في موكب الحياة إلا خادمه وهو فتى ريفي هرب من جفوة الحقل ليسكن إلى رخاوة المدينة، وإلا بعض زملائه في المدرسة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>