للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

واستشعر الفتى الوحدة توشك أن تقض مضجعه وتعكر صفو أحلامه وتقذف به في بيداء الخواطر المضطربة، فهو لا يحس عطف الأب وقد ضمه القبر منذ عمر طويل، ولا حنان الأم وقد ودعته الوداع الأخير منذ سنوات خمس، ولا رقة الأخ وهو وحيد أبويه. أما أهله فقد تنكروا له يوم أن كان في شظف العيش ورقة الحال، فإلى على نفسه ألا يزور ديارهم أبداً وألا يعطف على فقير فيهم وألا يستعين بذي جاه منهم أو يلجأ إلى ذي مال. ومضت الأيام على نسق واحد وقد أقفرت من قلب ينبض بحبه أو نفس تضطرب بالعطف عليه فذاق لذع الوحدة ومرارة العزلة.

وجلس الفتى - ذات اليوم - إلى زميل له يحدثه حديثه وإن نبرات صوته لتكشف عن أسى دفين عاش في قلبه منذ أن كان طفلاً، ونما على السنين وربا واشتد غرسه، وإن عبراته المترقرقة لتنبئ عن شجو يقطع نياط القلب ويقد أوتار الفؤاد. ورقَّ صاحب لصاحبه فقال الزميل (أرأيت - يا صاحبي - مرض نفسك وعلة قلبك؟ إن لكل داء دواء يستطب به!) قال في لهفة، (وما دواء دائي، وقد استعصى عليَّ أن أطب له؟) قال (لا ضير عليك، إن الزوجة والولد هما دواء قلبك وشفاء نفسك، إنهما ولا ريب يمسحان على آثار الضيق، ويمحوان علامات الضنا، وينفثان في الدار البهجة والنور، ويبعثان في القلب السرور والنشوة) فقال الفتى (لا عجب، ولكن أنَّى لي أن أجد الزوجة وأنا أمقت أهلي وأبغض عشيرتي وأفزع عن ذوي قرابتي) قال (أفحتماً أن تتزوج من أهلك وفي الدنيا مراد وسعة) قال (أما أنا فلا أعرف داراً أجد فيها شفاء علتي) قال (ماذا ترى في ابنة الأستاذ فلان؟) قال (هي فتاة لا أستطيع أن أسكن إليها. فأنا أرى في أبيها الرجعية والتزمت وضيق العقل وسفاهة الحلم، والفتاة في كنف مثل هذا الأب تستشعر السجن والغل معاً، فإذا انفلتت من سجنها انفلتت من قيود الشرف والكرامة) قال (هذا وهم باطل، ولكن نفس العزب تصور له خواطر تافهة مضطربة لتقعد به أن يكبل نفسه بالزواج) قال الفتى (لطالما طافت الفكرة بذهني فما دفعني عنها إلا أنني لا أجد من يتحدث بلساني ويكشف عن ذات نفسي) فقال الزميل (لا عليك، فإنا - منذ الآن - رسولك!)

وانطلق الرجل يمهد السبيل لصديقه الفتى، فما لبث الأب أن اطمأن إلى الرأي وأسلس للخاطرة فسميت الفتاة على فتاها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>