للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وذاق الفتى - لأول مرة في حياته - لذة الحياة وهدوء النفس وراحة الضمير وسعادة العيش، فزوجته فتاة في ربيع العمر ورونق الجمال، تتألق شباباً وبهاء، وتشع نوراً وضياءً، وهي زوجة من طراز ممتاز، ترعى شأن الزوج وتحفظ ودَّه وتقوم على حقه، فيها اليقظة والنشاط وفيها الرقة واللطف. فهي تبذل جهد الطاقة لتهيئ داراً أنيقة فيها النظافة والنظام وفيها الهدوء والراحة وفيها السعادة والطمأنينة. وعاش الفتى إلى جانب زوجته يسعد بها ويرتاح إلى لقياها. ثم أقبل الطفل الأول يملأ الدار بهجة ورواءً، ويشد قلباً إلى قلب ويضم فؤاداً إلى فؤاد، وانطوت الأيام

وجاءت الحرب تنذر بخطر عظيم، وجاء الغلاء يريد أن يحطم سعادة قلبين، فعلت وجه الفتى غيرة قاتمة حين رأى راتبه الضئيل يتداعى أمام صفعات الغلاء وهي قاسية عنيفة ويتهاوى أمام حاجات العيش وهي كثيرة ملحة. والحكومة تنظر ولا ترى، وتتحدث ولا تفعل.

وأفزع الفتى أن يرى سعادته توشك أن تنهار لضيق ذات يده فأنطلق إلى المدير يكشف له عن خلجات ضميره ويكشف أمامه عن حاجات نفسه ثم راح يستجدي عطفه ويسأله أن ينتدبه مدرساً في السودان ليجد الحياة الطيبة والنعمة الوارفة. ورق قلب المدير للفتى الصريح فأجاب طلبته.

وعجل الفتى إلى زوجته يزف إليها البشرى. . بشرى راتبه الذي زاد ضعفين في لمحة عين. وعجبت الفتاة أن يضاعف راتب زوجها مرة واحدة فسألته في لهفة (وكيف؟) قال (لقد انتدبت مدرساً في السودان) وابتسمت الزوجة فقال لها (أو يزعجك أن أفعل؟) قالت (حسبي أن أجد لذة الحياة إلى جانبك وأن أسعد بخفض العيش في جوارك، ومالي هنا مأرب ولا حاجة) واطمأنت نفس الفتى حين وجد الخلاص، وحين فر - هو وزوجته وأولاده - من بين فكي الفاقة والغلاء والضيق قبل أن تعصره عصراً يهد من كيانه ويزعزع من سعادته.

يا لرجولتك أيها الفتى! لقد فزعت عن دارك ووطنك لتكون أباً وزوجاً تستعذب الغربة وتستمرئ الضنا وتصبر على رمضاء الحر ولفحه الهاجرة، لتهيئ لزوجك وبنيك حياة طيبة فيها الرفاهية والخفض.

<<  <  ج:
ص:  >  >>