يعرف عن طاغور أنه صرح في مناسبات عدة، أنه ليس بفيلسوف ولم يحاول قط أن يبتدع مذاهب جديدة في الفلسفة، وأنه كان يعمل دائماً على إحياء الحكمة الهندية القديمة والتعاليم الهندوسية حتى تساير روح العصور الحديثة واتجاهات المدنية الغربية، ولكن بدون أن تفقد في الوقت نفسه شيئاً من أصالة مقوماتها الروحية، أو تتعارض مع نزعات الهنود الأساسية.
أحسب أن أرى هذا عمل شاق! إذ كيف يمكن التوفيق بين تعاليم متعارضة ومبادئ متناقضة؛ فإن تعاليم الهند الروحية تزهد في متع الحياة، وتحتقر ميدان المادة والقوة، وتنفر من الحياة العملية النافعة، وتكره أن تخوض معترك التوسع الاستعماري وبسط النفوذ، ولا تتمسك إلا بالفضائل الخلقية والقيم المعنوية، وتدفع الهندي لأن يؤمن باتحاد الوجود الشامل، وتلزمه بان يسعى لكي يدرك الله ويلاشي فرديته فيه، فيشعر بالوحدة المطلقة التي تبعث في نفسه السعادة والحرية. بينما مبادئ الحياة الغريبة ترحب بمختلف متع الدنيا الحسية، وتحث على كل عمل يجلب أي نفع مادي، وتشجع على الاندماج في الحياة الاستغلالية والمغامرة في ساحة المادة والقوة، كما لا تتمسك إلا بالفضائل النفعية والقيم العملية، ولا تكترث للدين بقدر ما تكترث للدنيا؛ فأقبل الغربي على ملاذ الحياة الأرضية إقبالا جنونياً غافلا عن أصول تعاليم ديانته المسيحية التي تنشد الخلاص من الحياة التي تجذبه مفاتنها، فشمله الطمع والجشع والأنانية، ووقع فريسة للفوضى والاضطرابات والقلق، وحرم من الأمن والسلام والاطمئنان.
ويخيل إليّ أن طاغور لم يفكر في أن يوفق بين هذه النزعات المتضاربة، وإنما لاحظ على الغرب شغفاً عميقاً بالعلم وجداً مستمراً ونشاطاً متواصلا في العمل فاستحق كل ذلك منه الإعجاب والتقدير. بينما وجد تعلق الهند بالزهد والانصراف عن الحياة شغلها عن كل شيء إلا عن تحقيق الاتحاد بالله والاندماج في اللانهاية؛ فأصيبت بالجمود والموت، وكسيت بصبغة التقاليد العتيقة التي لا تلائم روح الحياة العصرية، وبدت الهند كأمة كسولة عاجزة في عالم كله حركة وتغير وتقدم فأراد طاغور أن يبعث حيويتها من جديد، ويخلع