للشعر أثر كبير في تاريخ الحياة الإنسانية، ولا يستطيع أحد أن ينكر
ما أفادها بنغماته السحرية الجميلة، وموسيقاه الناطقة المؤثرة، وإذا كان
العلم يعطينا مدداً نافعاً، وفوائد جليلة، فإن الشعر يمنحنا هبة أعظم
شرفاً، وذلك لأنه يفتح على أرواحنا النوافذ المغلقة فيصلها بالحياة التي
تجري أمامها، والنور الذي ينتشر حولها، ثم هو يعرض أمام أنظارنا
الجمال الهاجع في الكون مجلواً في أبهى حلله، ذلك الجمال الذي هو
زهرة الحياة الدنيا وفتنتها فما هو هذا الشعر الذي يقدم لنا كل هذه
الهبات؟
أما أساتذة مدارسه التي أخذت تعلمه في الشرق فقد اهتدوا منذ القرون الأولى للهجرة إلى تعريفه بأنه (الكلام الموزون المقفى) ولا شك أن هذا تعريف قاصر لأنهم تناولوا به السور الخارجي الذي يحيط بمدينة الشعر فقط، أما المدينة نفسها وما تضج به من حياة وحركة، وما تموج به من حسن وجمال، فلم تسترع أنظارهم، ولم تجذب انتباههم، ولعل رواية الشعر الجاهلي هي التي ورطتهم في هذا التعريف الأبتر، فقد كان الشعر الجاهلي يروى سواء أكان بسيطاً أم لم يكن، وسواء أكان مؤثراً أم لم يكن، وسواء أكن مفهوماً أم غير مفهوم، وكان الرواة لا يطلبون في الشعر إلا أن يطن بالوزن والقافية، وأما المعنى الذي هو روح الشعر فلم يلق منهم عناية ولا دراية إلا في الأقل القليل، فلما أخذت المدارس تعلم الشعر وتقننه فهمت أن الوزن والقافية هما كل شيء فيه، واستن لها السنة الخليل بن أحمد أستاذ المدرسة الأولى فقد قال: والشعر هو ما وافق أوزان العرب، فمادام الكلام قد ارتدى برداء الوزن فهو شعر ولو لم يكن فيه روح تنبض، ولا حياة تخفق، والذي يدعو إلى الدهش هو أن هذه الفكرة السقيمة في الشعر استمرت قائمة في هذه المدارس طوال العصور المختلفة كأنها قضية منطقية مسلم بها، ولم يفكر الأدباء في الخروج عليها. نعم أتيح للجاحظ أن يتأثر بالمدرسة اليونانية فيقول:(إنما الشعر صياغة وضرب من التصوير) ولكن للأسف لم يعن هو نفسه بهذا المعنى فيما جمع من الشعر بكتابه البيان