الغناء روح النفس، وروح القلب، يزيل الشجو بالشدو، ويبعد الآلام بالأنغام، وإذا تواءم الصوت المعبر، واللحن المصور، كان التحليق والسمو. ولعل أجل المواهب ما تعاطف (المشاركة الوجدانية) وما تؤالف النزعات الإنسانية، فالشعر، والغناء، والموسيقى، يكمل بعضها بعضاً في موكب الفن الرفيع، فالموهوبون في هذه الألوان ينغمون المشاعر، ويشاركون الأفئدة في اتجاهها الوجداني. والتعبير (فن) قبل أن يكون أداء. وقد أودع الخالق في الحواس القدرة على التذوق؛ فالأذان موصلة التناغيم في تأثر وانعطاف وإشباع، وهي صادقة الحكم ما دامت تتفاعل معها مثيرات الوجدان، لذلك عظم شأن التغني وارتفع قدر اللحن. أليست اللغة في أول أمرها أصواتاً؟ أليس التعبير عن الإحساس كان مقاطع ساذجة تدل على الغرض؟
بلى، فالصوت أصل أصيل في قوة التأثير والتأثر، و (الأوتار) الواهبة جمال الصوت ثروة إلهية أودعها المبدع الأعظم لتكون نعمة من نعمه الجليلة! وإن النعمة الممنوحة للشرق المكدود ممثلة في صوت (أم كلثوم) الذي يسري عن النفوس أوجاعها، ويسري في الحنايا سريان الكهرباء؛ فيؤثر تأثير السحر. . . لقد تسمعت إلى الكبد الحري التي كانت ترسل في التياع (يا آسى الحي هل فتشت في كبدي) وكنت في استهلال صبوبي أجنح بخيالي الصغير إلى عالم روحي بحت، وعشت في هذا اللحن أنهنه الأنة في صدري؛ فترسل الزفرة، وتريق العبرة، وأحسست في أعماقي أن الشادية خالدة، لأن تعبيرها (فني)، لا ترسل الكلمة مرتجلة اكتفاء بالصوت العذب، والتغريد الآسر، فكأنها تعرب ما يطرب؛ وتراعي مخارج الحروف الدقيقة مراعاة فيها العجب العجاب. وهذا هو الفرق بينها وبين سواها وهو عينه ما دعا الأديبة (نعمات أحمد فؤاد) أن تعرض لحياة (أم كلثوم) في كتاب