إن الذين يعيشون في حماية القانون وحراسة الشرطة ورقابة القضاء، الذين يعيشون في الحضر بين جدرانه وأبوابه وشوارعه ودروبه، يحسبون أن جماعة لا يسيطر عليها سلطان قاهر ولا يقهرها قانون نافذ ولا يقوم بين أفرادها قوامون من الشرط والجنود هي جماعة مسلمة للقتال والنهاب، يبطش قويها بضعيفها، ويفتك المسلح فيها بالأعزل، ولكنا نرى جماعات بادية تعدل بينها سنن العيش، وتمسك بها دون العدوان الرغبة والرهبة، ويقوم عليها عرف عادل مسلط. وربما يظفر فيها الفرد من الحرية ورعاية الحق والواجب بما لا يظفر به إنسان الحضر، ويقيده العرف بأكثر مما تقيد الحضري سلاسل القانون
وكذلكم يحسب الذين يعيشون في هذا العصر، يرون ضروبا من دور التعليم تتداول الناشئ منذ الطفولة إلى أن يبلغ الثلاثين أو يجاوزها، ويرون وزارات للمعارف تسيطر وتدبر وتنفق، ويبصرون سننا شتى ونظما مختلفة لتلقين العلم وتفقيه المتعلم، ويسمعون دوياً مستمراً في التعليم والتربية، وجدالا متماديا في وضع القوانين ونقضها وخط الخطط وتغييرها - يحسب الذين يشهدون هذا ويسمعونه أن جماعة ليس فيها وزارة للمعارف تضع القوانين وتنشئ المعاهد وتنفق الأموال ليس لها من العلم نصيب، ولكنا نرى في تاريخ الأمم كلفا بالعلم ودأباً عليه وتبحراً فيه. ونقرأ عن العلماء النابغين في كل علم والصناع الماهرين في كل صنعة، ولم يقم على هذه العلوم والصناعات وزارة للمعارف ولا حشر لها ما نعهد اليوم من الموظفين والقوانين والأموال والأعمال
وفي تاريخ الإسلام ما يحير القارئ من الحث على العلم والدأب على تحصيله والولع به واحتمال المشقة في سبيله والرحلة إلى الأقطار البعيدة من أجله، والتنافس فيه، فقد جاء الإسلام داعياً إلى العلم حاثاً على النظر في ملكوت السموات والأرض وسمي دستوره الكتاب والقرآن، وكانت أول كلمة نزلت من القرآن (اقرأ). وحمل العرب أمانة الإسلام، ورعوا سنن القرآن، فاجتمعت الأمم في رعايتهم على حب العلم وطلبه، والكد فيه والدأب عليه حتى صار العلم الإسلامي كله كمدرسة واحدة يجد معلموها ومتعلموها في التعليم