للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والتعلم. ويقوم عليها خلفاء وأمراء وكبراء يبذلون من جاههم ومالهم لأولى العلم. وقد بلغ الخلفاء بالعلم والعلماء منزلة التقديس. وأثرت عنهم في هذا سير لا يعرف الزمان نظائرها ولا يعي التاريخ أشباهها. هذا هرون الرشيد يصب الماء على يد عالم ضرير ويقول إنه يفعله إكراما للعلم، وولداه الأمين والمأمون يتنافسان في تقديم النعلين لأستاذهما الكسائي. والخليفة المعتضد بالله، كان يوما يطوف في بستانه وهو آخذ بيد ثابت بن قرة الحراني، فجذبها دفعة وخلاها، فقال ثابت ما بدا يا أمير المؤمنين؟ قال: كانت يدي فوق يديك والعلم يعلى ولا يعلى عليه

وقد سار الخلفاء الأمويون والعباسيون والفاطميون وملوك بني أمية بالأندلس وأمراء العرب جميعاً، ثم الملوك المسلمون من بعدهم على سنن واحدة في نشر العلم والحث عليه وإعزاز أهله والبذل لهم، وبناء المدارس وخزائن الكتب وبلغوا في هذا غاية ليس وراءها غايات

وما ظنك بأمة تدون القرآن ثم لا تعتمد على مصاحفه وحدها فتحفظه وتتلقاه بالرواية الشفوية لا تشذ منه كلمة ولا حرف، ثم لا تكتفي بهذا بل تروي طرائق النطق به على اختلاف اللهجات، فتحفظ للكلمات طرقا للأداء تخلدها في الصحف وتحفظها بالمشافهة على مر العصور؟ ثم ما ظنك بجماعة جمعت من أفواه الناس في المشرق والمغرب أحاديث الرسول وقد مضت عليها عشرات السنين غير مدونة. بهذه الهمة سار المسلمون في هداية شرعة الإسلام الواسعة، وأخوة الإسلام الجامعة، وفي رعاية العرب الأحرار وملوكهم الأخيار

طلب المسلمون العلوم الدينية واللغوية والعقلية في كل مكان، بكل الوسائل وعلى كل الأحوال، وكانت البلاد الإسلامية كالبلد الواحد يرحل طلاب العلم فيه والعلماء من جهة إلى أخرى ويقطعون الفيافي البعيدة كما ينتقل أهل القطر الواحد من جانب فيه إلى جانب، حتى صارت الرحلة سنة بين العلماء، فمن لا يرحل ولا يرحل إليه لا ينال بينهم مكانة عالية. وكم تغلغل علماء اللغة والأدب في البوادي يتلقون عن الأعراب جيلاً بعد جيل

وحسبنا مما تفيض به أخبار العلماء هذه المثل:

الحافظ ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق المتوفى سنة ٥٧١ طلب العلم في مكة، والكوفة، وبغداد، وأصبهان، ومرو الشاهجان، ونيسابور، وهراة، وسرخس، وأبيورد، وطوس،

<<  <  ج:
ص:  >  >>