لا أعلم أن الفلسفة تحضر الحب على أهلها، بل الذي أعلمه أن الفلسفة
حب كلها. وليس اسمها الا لفظاً من ألفاظ الحب؛ ولكن هذا الحب إذا
احتل قلباً شغله عن كل شيء واستأثر بكل ما فيه من قوة وعاطفة
وهوى، ولم يدع من ذلك للحياة اليومية العاملة الا شيئا يسيراً جدا.
فالفلسفة حب الحكمة، وهذه الحكمة شديدة الغيرة، شديدة الاثرة، لا تحب الشركة ولا ترضاها، ولا تسمح لعشاقها بأن يصفوا بودهم شيئاً أو أحداً غيرها. فمن فعل ذلك أو شيئاً منه، فليس هو من الحكمة في شيء؛ وإنما هو رجل مثلي ومثلك يغشى الأندية، ويضطرب في الشوارع، ويعيش مع الناس، وليس له حظ من المدينة الفاضلة التي يسكنها ويسيطر عليها عشاق الحكمة وحدهم.
لذلك كان أمر هذا الفيلسوف الذي أحدثك عنه عجباً من العجب، وفنا من هذه الفنون النادرة التي لا يظفر بها المؤرخون والقصاص الا في مشقة وعسر، وإلا على أن تفرق بينها القرون الطويلة والعصور البعيدة. والذي أعرفه أن التاريخ لم يظفر قبل فيلسوفي هذا العظيم بعاشق قد دلهته الحكمة، وعبث بلبه جمال ألهتها العليا؛ ولكنه على ذلك استطاع أن يشغف بآلهة أخرى يشركها مع هذه الآلهة التي كان يصورها اليونان في صورة أثينا، تلك التي خرجت من رأس أبيها زوس، تامة الخلق، مكتملة الشباب، فيها جمال فتان؛ ولكن فتنته تخلب بقوتها لا برقتها.
لم يعرف التاريخ عاشقاً من عشاق أثينا استطاع كما استطاع فيلسوفي العظيم، أن يشرك معها امرأة من النساء في حبه وهيامه، وأن يختصها من هذا الحب والهيام بمثل ما اختص به آلهة الحكمة نفسها، وأن ينتهي به الأمر إلى أن يخلط ابنة زوس بابنة بابيس، ويتخذ منهما شخصاً واحداً يحبه ويقدسه، ويصوغ له ديناً قويا خصبا، ويحاول أن يبسط سلطان هذا الدين على الإنسانية كلها، أو على الإنسانية المسيحية على أقل تقدير.