نشأ العلم جنيناً في أحشاء المعرفة البشرية عند قدماء المصريين والهنود ومن إليهم من شعوب الشرق القديم، وكان أداة لخدمة الحياة العملية، وتحقيق الملح من مطالبها، ووسيلة لتنمية العقيدة الدينية وتوكيد سلطانها في قلوب الناس، ثم أقبل عصر الفلسفة اليونانية فجاهد أهلها لإنقاذه من عبء الحياة العملية وضغط العقيدة الدينية معاً، ورفعوه إلى البحث البريء الذي لا يعرف غاية يرمي إليها إلا اللذة العقلية وحدها. ثم أقبلت العصور الوسطى وقد تمكن الدين المسيحي من قلوب الناس، وهيمن على عقولهم، فهبط العلم من سمائه وأدركته العبودية من جديد. إذ سخره أهله لخدمة الدين وتمكين نفوذه، وأقام العلم على احتماله لهذا الاستعباد حين تمرد أساطين النهضة على سلطان الكنيسة، وتولوه بالتحطيم والتدمير. وأقبل القرن السادس عشر، وأوربا في غليان فكري أثار لوناً من الشك الهدام. أفقد الناس اليقين في مجال العلم، والاطمئنان في ميدان العمل، وحطم وحدة أوربا وتركها ركاماً وأنقاضاً، واطمأن لهذا الانتصار الفاشل دعاة الشك اليائس: أجريبا وسانشيه ومونتاني. بيد أن الناس قد ضاقوا بدعوتهم وتطلعوا إلى اليقين والاطمئنان واستخفهم الرضا عن دعوة جديدة ظهرت في أواخر القرن السادس عشر لمقاومة هذا الشك الهدام، تولاها ثلاثة من أعلام الفكر هم: شارون وديكارت وبيكون، فدعا الأول إلى الاطمئنان عن طريق الإيمان الديني - وكان روح العصر لا يلائم دعوته - وبشر الثاني باحترام العقل واعتباره أصدق معين تستقى منه المعرفة الصحيحة فكان أبا الفلسفة الحديثة؛ ونادى بيكون بالإيمان العلمي عن طريق التجربة، وحدد للباحث طريقته ورسم له منهجه، وأعلن ميدان العلم وغايته في وضوح لا يحتمل الالتماس فكان أبا العلوم الطبيعية الحديثة، وعلى يديه خرج العلم من أحشاء المعرفة البشرية، واستقل عن الدين والفلسفة والأدب، وتميزت شخصيته وتحدد ميدانه وعرفت غايته. ذلك أن بيكون أعلن احتقار العلم الذي يدرس للذة