العقل أو خدمة الدين، وأكد الدعوة إلى ربط الأبحاث العلمية بالحياة العملية وقصرها على صالح الإنسان ومنفعته. فكان ميلاد العلم الحديث شبيهاً من بعض الوجوه بميلاده القديم. واستبسل بيكون في الدفاع عن العلم حتى كفل له الاستقلال عن سائر ألوان المعرفة، وحط عن كاهله عبء الأغراض الدينية ولكنه لم يكفل له حريته كاملة موفورة، فأذله مرة أخرى وسخره لخدمة الحياة العملية وتوفير السعادة للناس. وهكذا بدأ العلم في عصوره الحديثة مستقل الشخصية صاحب منهج محدود وغاية مرسومة، يتهكم بالفلسفة ويسخر من أهلها، ويبتعد عن العقيدة الدينية ويقيم الحدود الفاصلة بينه وبينها، ولكنه مع هذا الاعتزاز الذي لازمه الغرور قد شعر بعد بأنه ليس سيد نفسه. إنه مسخر لخدمة الإنسان، ونجاحه رهن بتحقيق هذه الغاية. فلما شب العلم بعد هذا ونضج عقله، ثاب إلى رشده، فكف عن الطعن في الفلسفة، وتقبل منها النصح بعد أن أرشدته إلى الكثير من أخطائه، وأخذ يجاهد لتحرير نفسه من ذل الأغراض التي رسمها له أبوه، وأصاب النجاح في مسعاه، وحقق حريته كاملة غير منقوصة، وأصبح يدرس لذاته بقطع النظر عن كل غاية - بالغاً ما بلغ سموها - إلا إذا اعتبرت اللذة العقلية نفسها غايته. إنه قد تحرر من ذل الحياة العملية واستعباد العقائد الدينية وامتهان الأغراض القومية - أو هكذا يزعم أصدقاؤه وحواريوه - وأصبح يفاخر الأدب والفن والفلسفة بأنه سيد نفسه، لا يخضع للعاطفة، ولا يحترم الهوى، ومنهجه موضوعي قائم على تعرف الشيء من حيث هو شيء، دون نظر إلى علاقته بخير المجتمع وصالح الإنسان. وقد أدى هذا بقواعده إلى أن تكون بمنجاة عن التأثر بالزمان والمكان وما يلابسهما من ظروف. أما الفلسفة والأدب فإن أحكامها تقديرية بالإضافة إلى ذات شاعرة مدركة تتأثر بمزاجها وتتفاعل مع بيئتها وظروفها. ووجه الخلاف بين هذا المنهج العلمي الحديث، والمنهج الذي رسمه بيكون قائم في الغاية وحدها. كان بيكون لا يحترم العلم إلا بمقدار ما يحققه للإنسان من خير، وما يوفره للمجتمع من نفع وهناء، فاسترد العلم حريته التي كانت له أيام اليونان، وأصبح يجاهر على لسان المجمع البريطاني لتقدم العلوم سنة ١٩١٥ بأن العلم يطلب لذاته أولاً. قال رئيس المجمع ما خلاصته: إني أقدر العلم حق قدره، وأكبر خدماته للمجتمع الإنساني، ولكني أعلن أن العلماء إذا اغتبطوا للظفر بما تضم الأرض من ثراء، وما تنطوي عليه كواكب السماء وجواهر المادة من قوة،