فليس مرد اغتباطهم إلى أنهم يرفعون الثروة المادية فوق اللذة العقلية؛ وإنهم ليستشعرون اللذة مضاعفة عندما يستعملون قوى العقل للوصول إلى منفعة الأمة، ولكن هذا كله لا ينبغي أن يمنعنا من تخطئة الحط من شأن المبادئ الأدبية، فإن هذا الامتهان قد ولد الرأي الفاسد القائل بأن القوة تخول صاحبها امتلاك ما يشاء (لعله يقصد ألمانيا التي أشعلت الحرب الكبرى قبل خطابه ببضعة شهور). ثم قال المجمع في اجتماعه الذي عقده بعد ذلك بعشر سنوات: إن القائلين بأن غاية العلم هي التسلط على قوى الطبيعة لخدمة الإنسان - وهي دعوة بيكون - يبالغون في الاعتقاد بصحة ما يزعمون، فما كانت المنفعة أكبر الأسباب التي حملت العلماء على مواصلة أبحاثهم، ولكن أول غرض يرمي إليه العلم، إنما هو الكشف عن قوى الطبيعة ومعرفة ما بينها من صلات، وتصنيفها حتى يأتلف من مجموعها نظام معقول. ذلك أول أغراض العلم؛ أما المنفعة المادية فيجنيها الناس بعد من وراء ذلك، وبهذا يصبح الاشتغال بالعلم لذة عقلية تكاد تلحقه بالفنون الجميلة!. . . والعلماء الذين يبلغون مناهج العلم العليا يشعرون بالرابطة التي تصل بين العلم والفن، وتجعل الطبيعة موضوع بحثهما معاً لغير ما غاية إلا التملي بجمالها. إن التحليل الجبري المنظم لشبيه بالنغمة الموسيقية ذات التوقيع المتسق، وهذا تشبيه يثير دهشة الذين لا يرون في الجبر إلا أرقاماً وعلامات، ولكنه مقبول عند الذين يعرفون نسبة هذه الأرقام والعلامات إلى المعنى الذي تخفيه وراءها، فهي كنسبة العلامات الموسيقية إلى الأنغام المطربة، والأثر الذي تخلفه في نفوس سامعيها. ثم يعزو رئيس المجمع اهتمام العلماء بالعلوم الطبيعية إلى ما تنطوي عليه مباحثها من بهجة وجدة، لا إلى ما ينتظر من ورائها من نفع مادي، وإن كان تحقيق هذا النفع أمراً أكيداً!
بهذه الروح (الفنية) يتحدث العلماء المحدثون عن العلم وغاياته. كان بيكون في مستهل العصور الحديثة يتهكم بالعلماء الذين ينفقون الوقت الطويل في الدراسات النظرية التي لا ترمي إلى خدمة الإنسان، فأصبح العلماء في آخر القرن الماضي يتحدثون عن علاقة العلوم الطبيعية بالعلوم الأدبية، ومشاركتها لها في تهذيب النفوس، ويقولون أنا نلوم العلوم الأدبية إذا اقتصرت على دراسة الإنسان وأعماله، وأهملت ظواهر الطبيعة وقواها؛ ثم نلوم أنفسنا إذا اقتصرت - علومنا الطبيعية - على النظر إلى الطبيعة ولم تتجاوزها إلى الإنسان