للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[درس في التفسير على طريقة التصوير]

للأستاذ سيد قطبّ

يتجه الباحثون في الأدب العربي إلى أن الشعر قد ضعف في أوائل العهد الإسلامي ضعفاً ظاهراً بالقياس إلى الشعر الجاهلي. ويعزون هذا الضعف الظاهر إلى أسباب كثيرة؛ أولها اشتغال المسلمين بالعقيدة الدينية الجديدة، ومحاربة الدين الجديد لكثير من ملابسات الحياة الجاهلية التي كانت تثير الشاعرية - وفي مقدمتها العصبيات القبلية والعائلية - ويضيف بعضهم إلى هذه الأسباب أن القرآن حارب الشعر (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم ترِ أنهم في كلُّ وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون)، وأنه كان لهذا أثره في نفوس الشعراء المسلمين.

وأنا أعتقد أن هناك مبالغة في قيمة هذه الأسباب وتأثيرها في الشعر العربي؛ كما أن هناك إغفالاً لسبب أساسي آخر كامن في نسج القرآن ذاته.

أعتقد أن الجمال الفني في القرآن كان من القوة والضخامة بحيث بده الحس العربي بمفاجأة عنيفة، وكان وحده كافياً لتغذية مشاعر العرب وإشباع الحاسة الفنية في نفوسهم بزاد أجمل من زاد الشعر الذي عرفوه وأقوى.

كان فيه من سمات الشعر الفنية ومن طلاقة النثر التعبيرية مزاج يجعله نسقاً خاصاً أعلى مما تبلغ إليه آفاقهم الشعرية، بل أعلى مما تتطلع إليه حاستهم الفنية، فامتلأت مشاعرهم به امتلاءها بالعقيدة ذاتها، وأحسوا له وقع السحر في نفوسهم، واستوى في ذلك السحر المؤمنون به والكافرون (كما فصلت ذلك على سعة في كتاب التصوير الفني).

وهذا الجمال الفني في تعبير القرآن كان عنصره الأول هو (التصوير) ومواجهة الحس البشري بما يروعه من الصور والمشاهد، وبما يستجيشه من الهيئات والظلالّ. وقد كان القرآن أغنى - بما لا يقاس - من الشعر العربي كله بهذه الصور والظلال، في مستوى رفيع من التناسق يبلغ حد الإعجاز.

وحينما وفقت إلى إخراج كتاب (التصوير الفني في القرآن) - وقد حوى عدد الهجرة الماضي من الرسالة فصلاً منه - لم أكن أريد بإخراجه مجرد عرض طائفة من الصور الفنية الجميلة من القرآن؛ إنما كانت نيتي الكبرى أن يتوجه البحث في جمال التعبير

<<  <  ج:
ص:  >  >>