القرآني كله هذا الاتجاه، وأن ننظر إلى هذا الجمال الخالد من زاوية أخرى غير الزاوية البلاغية المعهودة، القائمة على أساس المعاني والألفاظ.
وحين ننظر إلى القرآن من هذه الزاوية الجديدة تبدو لنا بدائع من الجمال الفني لم تكن تخطر على البال. ويبدو لنا أن هذا الكتاب الخالد يخاطب الحس الإنساني غالباً من حيث تخاطبه الصورة الفنية، والمشهد المتحرك، والموسيقى التصويرية؛ وأنه يعتمد كثيراً على الظلال النفسية التي تلقيها الصور والمشاهد والإيقاعات في الحس الإنساني، فتحركه، وتفتحه، وتجعله أشد ما يكون استعداداً لتلقي العقيدة الدينية؛ وبخاصة الجانب الغيبي منها - وهو جانب أصيل في كلُّ عقيدة، وله في النفس الإنسانية مكانه الذي لا يملؤه سواه - وإذا كان في كلُّ عقيدة دينية قسط أصيل من الفن كما أعتقد، وكما يبدو من الدراسات المقارنة للأديان، فقد تكفل القرآن بتحقيق هذا القسط الفني، دون أن يخل بنصوع العقيدة وبساطتها، ذلك أنه حققه في طريقة التعبير، بينما كثير من الديانات الأخرى حققه في صلب العقيدة.
وإذا نحن تجاوزنا الديانات الوثنية لأنها خارجة من الحساب هنا، واقتصرنا على الديانة الموسوية والديانة المسيحية، فإننا نجد القسط الفني في العقيدةالموسوية كامناً في الأساطير التي تزحم العهد القديم وتتخذ لها طابعاً فنياً يكاد يكون طليقاً. أما في الديانة المسيحية فقد تكفل بهذا الجانب مأساة المسيح ذاتها - على حسب ما ترويه الأناجيل والرسائل في العهد الجديد - وحتى لو نظرنا إليها في صلب القرآن، فإننا نجد القسط الفني كاملاً في تضاعيفها منذ مولد عيسى إلى رفعه.
أما العقيدة الإسلامية فقد ظلت بسيطة واضحة، وتكفل التعبير القرآني وحده - عن طريق التصوير - بتحقيق الجانب الفني في هذه العقيدة بما يناسب وضوحها ونصاعتها.
قصدت - إذن - في كتاب (التصوير الفني) إلى أن يتجه البحث في الجمال القرآني، هذا الاتجاه. . . واليوم في عدد الهجرة من الرسالة أحب أن أعرض نموذجاً كاملاً لتفسير (سورة الحاقة) على هذا الأساس. والله المستعان. . .
سورة الحاقة من السور المكية، وهي في جملتها تتولى بسط قضيتين غيبيتين من قضايا العقيدة الإسلامية، بينهما ارتباط وثيق.
أولاهما: قضية البعث والقيامة؛ والثانية قضية الوحي وأمانة التبليغ. فلننظر كيف عرضت