هاتين القضيتين الكبيرتين، ومن أي منافذ النفس الإنسانية سلكت بهما إلى مستقر اليقين:
بسم الله الرحمن الرحيم
(الحاقّة. ما الحاقة. وما أدراك ما الحاقة؟ كذَّبتْ ثمودُ وعادٌ بالقارعة. فأمّا ثمودُ فأهلكوا بالطاغية، وأما عاد فأهلكوا بريحٍ صَرْصرٍ عاتية، سخَّرها عليهم سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيامٍُ حُسُوماً، فترى القومَ فيها صَرْعى كأنهم أعجازُ نَخْلٍ خاوية - فهلْ ترى لهم من باقية؟ - وجاءَ فرعونُ ومَنْ قبله والمؤْتَفِكَاتُ بالخاطئة، فعصوا رسول ربِّهم فأخذهم أخذةً رابيةً. إنّا لما طغى الماءُ حملناكم في الجارية، لنجعلها لكم تذكِرةً وتعيها أُذنٌ واعية. فإذا نُفِخَ في الصُّورِ نفخةٌ واحدة، وحُمِلتِ الأرضُ والجبالُ فدُكَّتا دكَّةً واحدة، فيومئِذٍ وقعتِ الواقعةُ، وانشقَّتِ السماءُ فهي يومئذٍ واهية).
الحاقة: القيامة. وهو يختار هذا اللفظ من الناحية المعنوية لما يسبقه من ذكر التكذيب بها من عاد وثمود. . . فهي الحاقة التي تحق، والتي تقع لأحقيتها بالوقوع، إحقاقاً للعدل الإلهي، وتقريراً للجزاء مع الخير والشر كما سيجيء في السورة بعد قليل.
وهو يختار هذا اللفظ من الناحية التصويرية لأن له جرساً خاصاً، هو أشبه شئ برفع الثقل ثم استقراره استقراراً مكيناً رفعه في مدة الحاء بالألف، واستقراره في تشديد القاف بعدها والانتهاء بالتاء المربوطة التي يوقف عليها بالهاء الساكنة. والجرس في ألفاظ القرآن وعباراته يشترك في تصوير المعنى وإيقاعه في الحس.
وهنا ينتهي الحديث في لفظ (الحاقة) لننظر في محيط أوسع إلى السياق الكامل:
الجو كله في هذه الآيات جو تهويل وترويع، وتعظيم وتضخيم، يوقع في الحس الشعور بالقدرة الإلهية الكبرى من جهة، وبضآلة الكائن الإنساني بالقياس إلى هذه القدرة من جهة أخرى. والألفاظ بجرسها وبمعانيها وباجتماعها في التركيب، وبدلالة التركيب كله، تشترك في خلق هذا الجو وتصويره: فهو يبدأ فيلقيها كلمة مفردة لا خبر لها في الظاهر: (الحاقة) ثم يتبعها باستفهام حافل بالاستهوال والاستعظام لماهية هذا الحدث العظيم (الحاقة)؟ ثم يزيد هذا الاستهوال والاستعظام بالتجهيل وإخراج المسألة عن حدود الإدراك:(وما أدراك ما الحاقة؟) ثم يدعك فلا يجيب على هذا السؤال. يدعك واقفاً أمام هذا الأمر المستعظم المستهول الذي لا تدريه ولا يمكن أن تدريه. يدعك لحظة مفعم الحس بالاستهوال