لكل مدنية من المدنيات بيئات عديدة، ومن هذه البيئات ما هو طبيعي فطري، ومنها ما هو اكتسابي
أما الطبيعي فكالموقع الجغرافي، وطبيعة الأرض وما يحيط بها من البحار، وما يتخللها من الأنهار، وما يبرز فوقها من الجبال، وما ينبسط فيها من السهول، وما ينزل بها من المطر، وما يهب عليها من الرياح، وما ينبث في الأرض من الأشجار، وما يتخلل جوها من الرطوبة، وما يذيع فيه من حرارة أو برودة. وأما الاكتسابي فكالمعتقدات العامة والشرائع الموروثة والأديان والعادات وطبيعة الحكم وصفة الحكومة وأخلاق الطبقة الحاكمة إلى غير ذلك
أما البيئة الطبيعية فقلما تتغير؛ وإن تغيرت فإن تغيرها لا يتناول الجوهر الثابت، وإنما يتناول العرض، فازدياد هبوب الرياح أو قلة الأمطار أو تغير الطقس من جفاف إلى رطوبة؛ أو من حرارة إلى اعتدال، قد يؤثر في الأمزجة بعض الشيء؛ ولكن الأثر لا يتناول الطيع الثابت في الأنفس بما يغير من طابع مدنية أصيل في الجبلة. ذلك على العكس من البيئة المكتسبة، فإن زوال معتقد من المعتقدات، أو انهيار دين من الأديان، أو شريعة من الشرائع، أو عادة من العادات، وحلول غيرها محلها، قد يلبس مدنية من المدنيات ثوباً جديداً ويدمغها بميسم له سمات خاصة. على أن هذه السمات قد تتكيف بما يلائم وحي البيئة الطبيعية، غير أنه يكون مختلفاً عن السمات التي تتسم بها المدنية في ظل معتقدات أو أديان أو شرائع انهارت وقامت أخرى على آثارها
على هذا نستطيع أن نقضي بأن انحلال المدنيات إنما يتناول بيئاتها المكتسبة، لأن انحلال بيئاتها الطبيعية مستحيل تقريباً. أما السبب في أن تظل شعوب أزماناً طويلة في ركود بعد انحلال طور من أطوارها المدنية، فيرجع في الغالب إلى انعدام المنبهات التي تبعث في الأنفس حب المجد والعظمة وعلو الذكر والسيادة العالمية. وهذه صفات إن انحلت بانحلال وجه من وجوه المدنية فإن بعثها يكون رهن ظروف لا يمكن التكهن بها